06-ديسمبر-2023
الطبيب غسان أبو ستة

تحدث غسان أبو ستة عن مكوث الأطباء الطويل في المستشفيات، رغم استشهاد العديد منهم وأفراد من أسرهم (المركز العربي)

قدم الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة، شهادة على الجرح الفلسطيني وتجربته بالعمل في مستشفيات غزة على مدار 50 يومًا، في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع المحاصر، خلال محاضرة عامة بعنوان "تدمير القطاع الصحي في غزة: مواجهة الكارثة والتهجير"، نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية.

وفي افتتاح محاضرته، قال أبو ستة: "ما يجري اليوم في فلسطين حرب إبادة أو حرب بني موريس الثانية، وتهدف إلى إفراغ قطاع غزة من سكانه"، مشيرًا إلى المجهود الشاق من الطواقم الطبية، وعملهم الذي ارتبط بالنضال الفلسطيني، في مسيرة طويلة بدأت بعد النكبة.

قال أبو ستة: "ما يجري اليوم في فلسطين حرب إبادة أو حرب بني موريس الثانية، وتهدف إلى إفراغ قطاع غزة من سكانه"

الطبيب صاحب التجربة الطويلة في قطاع غزة، الممتدة على مدار 30 عامًا، وساهم خلالها بالمجهود الطبي في غزة، خلال كل الحروب السابقة، قال عن وصوله إلى قطاع غزة: "ليلة 7 أكتوبر، توصلت إلى قناعة أن الحرب مقبلة على غزة، وقاسية جدًا. وكان قراري محاولة الدخول إلى غزة بأسرع وقت ممكن قبل إغلاق المعبر، وصباح يوم الإثنين وصلت إلى معبر رفح، واحتجت إلى نهار كامل حتى وصلت إلى مستشفى الشفاء الذي دخلته في 10 أكتوبر".

وأضاف: "الفرق ما بين هذه الحرب والحروب السابقة، هو الفرق بين الفيضان والتسونامي".

قرار باستهداف المستشفيات

واعتبر الطبيب غسان أبو ستة، الذي ساهم في علاج جرحى الحروب في المنطقة من سوريا إلى العراق واليمن، أن إسرائيل قدمت سردية عن المستشفيات، تهدف منها إلى شرعنة استهدافها، ومجزرة المستشفى المعمداني، كانت "أول اختبار لتجاوب المجتمع الدولي مع الاستهداف المتعمد والموجه للقطاع الصحي"، وهو ما حصل عبر قبول سردية إسرائيل بأن صاروخًا للمقاومة هو الذي قتل 480 إنسانًا دفعة واحدة.

وأشار إلى أن ما طرحته إسرائيل عن مستشفى الشفاء، يكشف عن "قرار استهداف القطاع الصحي". موضحًا أن قصف المستشفى المعمداني، كان علامة لإسرائيل على السماح الدولي لها باستهداف القطاع الصحي بشكلٍ ممنهج، إذ بعد المجزرة تم استهداف 4 مستشفيات للأطفال في قطاع غزة، بشكلٍ مباشر، ضمن فكرة نزع الإنسانية عن الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال.

وبعد مستشفيات الأطفال تم ضرب مستشفى السرطان، وذلك ضمن رمزيات ضرب القطاع الصحي، للاختبار المستمر للرأي العام الدولي لوقف الحرب، وبعد ضرب كل المستشفيات باستثناء الإندونيسي والشفاء، تم محاصرة مستشفى الشفاء وتم التمثيل في أكثر جزء هش من فكرة الطفولة، وهي الأطفال الخدج، وهم رأس هرم الهشاشة، إذ أول ما دخلت الدبابات الإسرائيلية، توجهت إلى أنابيب الأوكسجين من أجل تدميرها.

وأضاف: "ضرب القطاع الصحي جزء من خلق الكارثة، أي تفكيك كل مفاصل الحياة، من الصرف الصحي وتحلية المياه، مثلًا في ليلة تركز القصف على شرائح إنتاج الكهرباء، وثم ضرب المخابز ومركبات الإسعاف واستشهاد أكثر من 200 طبيب وممرض ومسعف بطريقة ممنهجة"، موضحًا: "الهدف خلق كارثة تستمر في التطهير العرقي بعد الحرب"، بما في ذلك خلق كارثة صحية، تنتج الأوبئة.

أمّا عن "حرب بني موريس الثانية": قال أبو ستة: "عودة إلى فكرة بني موريس، كنا نرى البوادر في المجتمع الإسرائيلي والذهاب إلى ذهنية الحل النهائي، عن طريق القضاء على الفلسطينيين في قطاع غزة، بالقتل والتدمير ومن ثم التهجير، وهذا سيتمد للضفة الغربية والداخل".

وفي هذا السياق، قال غسان أبو ستة إن "في العنف الإسرائيلي جزء أساسي استعراضي وتمثيلي، وهذا جزء مرتبط في الإيغال بالدم وخلق الهول عند الفلسطيني، وجثث الأطفال الخدج في مستشفى النصر، كانت أساسية في هذه الاستراتيجية، ولم تكن خطأ بل ضمن استعراض القتل".

المستشفى المعمداني وغسان أبو ستة

قراءة الجرح

تحدث أبو ستة، عن إمكانية قراءة الحرب وتفاصيلها من خلال الجروح، وضمن حديثه أشار إلى مشاركة طائرات مُسيّرة بريطانية في الجهد العدواني الإسرائيلي على قطاع غزة، وقال: "متى سيرتوي العالم من دمنا؟".

واستمر في قراءة الجرح، بالقول: "في بداية الحرب كان هناك استخدام مفرط لقنابل 2000 رطل على المباني السكنية والهدف المسح الكامل للمناطق"، مضيفًا: "كنا نرى ذلك عن طريق الإبادة الشاملة لعائلات كاملة، أي ثلاث أجيال تُباد. ومن ثم شاهدنا الحروق، وهي حروق صعبة جدًا، وتصل إلى أكثر من 50% من الجسم، كما تكون حروق بدون شظايا وكسور، أي نتيجة قنابل تشتعل وتنفجر وتنتج قنبلة نار".

وأضاف: "ثم شاهدنا العودة إلى الفسفور الأبيض، والحرق منه مميز، لأن الاحتراق لا يتوقف إلا عند انقطاع الأوكسجين، أي يستمر حتى الوصول إلى الأعضاء الداخلية أو العظم"، مشيرًا إلى استخدام هذه القنابل كتجربة عام 2008، ومن ثم استخدامها بشكلٍ مكثف في هذه الحرب.

كما رجح، استخدام جيل جديد من صواريخ هيلفاير، وهو صاروخ متشظي، مما يؤدي إلى بتر في الأطراف، موضحًا: أنه "يؤدي إلى بتر في مناطق من الصعب فهمها، أي أنه لا يحصل في أضعف منطقة من الجسم، بل في منتصف الفخذ وهي أقوى جزء بالجسم"، مشهبًا إياه بالتبر نتيجة ضربة مقصلة وليست نتيجة الانفجار.

كما تحدث عن استخدام المُسيّرات المعروفة باسم "كواد كابتر"، والتي تمتلك بندقية قنص، وتطلق الرصاص تجاه الفلسطينيين.

مقاومة عالم "الموت الممتد"

وتحدث أبو ستة، عن حالة المقاومة الشعبية في قطاع غزة، التي تظهر على شكل مقاومة عنيدة للموت الحاضر في كل مكان في غزة، والتقدير العميق لقيمة الحياة بين الناس هناك في أشد الظروف صعوبة، حيث أن الضعيف قد يسعى لمساعدة من يكون أضعف منه، موضحًا أن هذه مقاومة يومية للإجرام والقتل والموت، "مقاومة مستمرة، تظهر في التعاضد البشري والتلاحم والاحتضان".

وقال أبو ستة، إن "ذل اللجوء تجربة بنيوية في الهوية الفلسطينية المعاصرة، يعني الإسرائيلي أعتقد أن التهديد في الموت سيجبر الناس على المغادرة، لكن اكتشف أن الناس ترفض العودة إلى اللجوء والحرمان، وهي بالنسبة للناس في غزة أسوأ من الموت".

getty

بؤس هيومن رايتس ووتش

وعن تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، الذي صدر عن مجزرة المستشفى المعمداني، و"رجح" سقوط صاروخ فلسطيني، على المستشفى، فقال: إن المنظمة أصدرت التقرير بدون التواصل "مع مديرة المستشفى، والمدير الطبي للمستشفى الذي تلقى عدة تهديدات إسرائيلية بقصف المستشفى، وأي طبيب أو طواقم صحفية أو جرحى من المستشفى"، مضيفًا: "المأساة أن السردية الإسرائيلية هي نقطة البداية. والضحية مطالبة بدحض السردية الإسرائيلية، وتبرأت نفسها من قتل ذاتها".

ووصف المنظمات الدولية بـ"أدوات السيد، التي لن تهدم بيته"، موضحًا أن دورها "بائس"، وذات "ولاءات متناقضة"، وتخضع لقرارات سياسية.

وأضاف: "إلى متى لن يكون هناك أطباء بلا حدود عربية وصليب أحمر دولي عربي؟ في منطقة مليئة بالحروب والكوارث، لماذا يجب الاعتماد على الولاءات المتناقضة لهذه المنظمات؟ في مرحلة ما يجب أن يكون رد من المجتمع المدني والنقابات العربية، وتكون هذه المنظمات أحد أدوات الشعوب".

شهادة على الجرح

تحدث غسان أبو ستة عن مكوث الأطباء الطويل في المستشفيات، رغم استشهاد العديد منهم وأفراد من أسرهم، بالإضافة إلى عدم تخليهم عن دورهم والانتقال من مستشفى إلى آخر، رغم القصف الإسرائيلي.

كما روى، استخدامه لـ"صابون الجلي والخل"، في ظل نفاد أدوية التعقيم الطبية، وغياب مواد التخدير الذي أجبرهم على إجراء عمليات بدونها.

كما قدم شهادة على عملية "الفرز بين الجرحى، الذي كان يزداد صعوبة. ففي بداية الحرب الفرز كان مبني على من يحتاج إلى العملية اليوم، ومن نستطيع إجراء العملية له بعد عدة أيام"، لكن مع تناقص عدد المستشفيات وغرف العمليات في قطاع غزة"، قال أبو ستة: "الفرز أصبح نوعًا من الاختيار الشيطاني لمن يعيش ولمن يموت. أصعب المشاهد كانت عند قصف مسجد دغمش، إذ حضرت العائلة وأصبحت تشارك في عملية الفرز"، مشيرًا إلى أن قطاع غزة بأكمله يحصل فيه ذلك، وليس فقط في الشمال، إذ أن 90% من عمل المستشفيات "يتركز على تضميد الجراح واختيار من نستطيع عمل العملية له".

وعن خروجه من المستشفى المعمداني، قال أبو ستة: "يوم ما تركت المعمداني انتهت أدوية التخدير وأغلقت غرفة العمليات، وكان هناك أكثر من 580 جريحًا لا تستطيع إلّا تضميدهم".

وأوضح أبو ستة، أن معظم الإصابات في غزة تحتاج إلى عدة تدخلات جراحية على مدى سنوات، مشيرًا إلى أن برنامج علاج إصابات مسيرات العودة، أحتاج إلى 3-4 سنوات، وهي حوالي 1000 إصابة.

كما أشار إلى أنه، عند وجوده في مستشفى الشفاء، كان هناك أكثر من 120 طفلًا، جرحى لم يتبقى أحد من أسرهم على مدى 3 أجيال.

كما روى أبو ستة، قصة طفل ووالده، بالدموع، إذ تحدث عن طفل (13 عامًا) لم يبق من عائلته، سواه ووالده، وكان يعالجه في المستشفى المعمداني، بعد إصابته في بتر بقدمه، وتهشم في يده، وعند اقتراب خروجه من غزة، أخبر والده بانتقاله إلى مستشفى العودة في النصيرات وسط القطاع، وأضاف: "الدبابات الإسرائيلي حرثت الشوارع، ومن المستحيل دفع كرسي عليه، وفي اليوم الذي كان من المفروض فيه ترك قطاع غزة، على مدار 6 ساعات دفع الأب، طفله على كرسي متحرك وقام بإيصاله للمستشفى"، وهذه هي مقاومة عالم الموت من قبل العوائل والجرحى.