09-مايو-2017

علي سعيد (1979)

ما الذي يجب أن يتوفّر في حوار يجريه إعلامي ما مع مبدع ما، حتى يرقى إلى مقام الحوارات التي توفّر المتعة والفائدة معًا؟ ذلك أنّنا نقرأ يوميًا، كما حدّثني الرّوائي الطاهر وطّار ذات صبيحة، حواراتٍ نخرج منها بما نخرج من معاينة جثّة، أو الخوض في بركة: النتانة أو الوحل.

ما الذي يجب أن يتوفّر في حوار يجريه إعلامي ما مع مبدع ما، حتى يرقى إلى مقام الحوارات التي توفّر المتعة والفائدة معًا؟

لا يجيبنا كتاب "الحقيبة الجلدية" (دار أثر) للإعلامي وكاتب السّيناريو السّعودي علي سعيد (1979)، عن هذا السّؤال مباشرةً، بل من خلال طريقة مختلفة في استكناه التجارب الإبداعية والفكرية التي حاورها، حيث يصبح السّؤال وثيقة على المعرفة لا التنطع، ومحفّزًا على الإجابة بالنّسبة للمحاوَر، والقراءة بالنّسبة للمتلقي، بما يرفعها إلى مقام البوح والتجلّي والاعتراف. فمن خصائص الحوار الصّحفي الفاشل، ألا يعرف صاحبه كيف ومتى وأين يطرح السّؤال، الذي يجعل الذات المحاوَرة تطرح التحفظاتِ جميعَها، تمامًا كما يستسلم طفل مفخّخ بوصية "ألا تخالط الغرباء"، لحضن أشعره فعلًا بالأمان.

اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها

لا يدري قارئ الحوار الذي يجريه علي سعيد، هل هو بصدد قراءة حوار صحفي أو قصّة قصيرة، أو نصٍّ في أدب الرّحلة، أو قطعة من السّيرة الذّاتية، حيث يتماهى السّؤال مع جوابه، والذّاتي مع الموضوعي والفكري مع الرّوحي، والظروف المصاحبة للحوار والسّابقة له، مع حيثيات الجلسة وما بعدها، فتتكاتف عناصرُ كثيرة، إلى جانب أهمية الاسم المحاوَر، في تحديد أهمّية الحوار.

وبعيدًا عن روح الاستعراض وحشو الذّات، قريبًا من السّياق الذي تقتضيه روح الفنّ وأناقة الفضول، يذكر لنا علي سعيد في كتاب "الحقيبة الجلدية" متى اكتشف محاوره أوّل مرّة، والأثر الذي تركه فيه ذاك الاكتشاف، وكيف وجده بعد اللقاء، والمكابداتِ أو الصّدفَ التي سبقت ذلك، وردود أفعاله مع الآخرين أثناء الجلسة، رابطًا ذلك كله بعبارة قالها المحاوَر أو جملة كتبها من قبل، فيزيدَ القارئَ معرفةً به، من خلال عرض معرفته الشخصية به، وبرصيده الأدبي أو الفكري أو الفنّي.

في الأدب، حاور علي سعيد السّوري أدونيس والأرجنتيني/ الكندي ألبرتو مانغويل والبحريني قاسم حدّاد والجزائرية أحلام مستغانمي والعراقيين علي بدر وأحمد سعداوي والمصري خيري شلبي، وحاور في الفكر الجزائري محمد أركون والمصري نصر حامد أبو زيد والسّوري سهيل زكّار، أمّا في الفن فاكتفى علي سعيد بالسّوري غسّان مسعود واللبنانية أميمة الخليل. 

ثلاث عشرة تجربة تنتمي إلى ثلاثة حقول، لكنّها تشترك في هاجس واحد، هو الحفر في ذاكرة المكان والإنسان، بحثًا عن أسئلة جديدة تذهب بهما إلى المستقبل، ولئن اختلفت في أداة التعبير، فهي تملك العمق نفسه، في الوعي بضرورة التسلّح بهذه الأدوات كلّها، للنّجاح في هذه المهمّة التي تنتف الكثير من الرّيش.

فأركون مثلًا يُصنّف مفكّرًا، لكنه مثل باسم حمد أيضًا، نحّات يحفر في جسد التاريخ، وغسّان مسعود يُصنّف ممثّلًا، لكنه مثل أميمة الخليل يعزف على أوتار الجسد، وعلي بدر يُصنّف روائيًا، لكنّه مثل سهيل زكّار يؤرّخ لرقعة عراقية واسعة من الجراح.

يقدم الكاتب والصحافي السعودي علي سعيد 13 حوارًا ثقافيًا في كتابه "الحقيبة الجلدية"

يقول على سعيد في كتاب "الحقيبة الجلدية" عن النّحات البغدادي باسم حمد، إنه كان يدخّن بشراهة، بينما كانت حبيبته تراقبه باهتمام، "وأنا جالس بجانبه أصغي إليه وهو يسرد الأحداث بدقة، منها اكتشافه لورقة تهديد بالقتل وصلت إلى باب بيته، الذي بات سجنَه". بعد ثلاثة أشهر، يتصل علي سعيد بباسم، فيجد هاتفه مقفلًا، وفي مكالمة مع علي بدر، يعلم بأنه توفي قبل شهرين في حادث سير. هنا أصبح الحوار ذا أهمية مضاعفة، لكنّ الصّدمة جعلت نشره يتأجّل ثلاث سنوات.

اقرأ/ي أيضًا: أفونسو كروش: لا يمكن ترك الشعر أبدًا

إلى غاية عام 2003، كان علي سعيد يعتقد أن أدونيس قد مات. هل حدث لأحدكم هذا الاعتقاد مع اسمٍ مترجمٍ إلى لغات الأرض، ومرشّح لأكبر جائزة أدبية فيها؟ وبينما هو مارّ على أحد الأكشاك في دمشق، وقعت عيناه على إعلان في جريدة "تشرين" عن "أسبوع أدونيس شاعرًا ومفكرًا" في "المكتبة الوطنية". يقول علي سعيد في الحقيبة الجلدية: "وجدتها مزدحمة بالنّاس، فسجلت الندوة وصوّرتها، ليكون ذلك أوّل منشور لي في الصّحافة الورقية". بعد سنتين، كان علي يقود السّيارة إلى بيت صاحب "مهيار الدمشقي" في قرية قصّابين السّاحلية، برفقة سعدي يوسف وصديقته التشكيلية النمساوية أنديريا تييري، والشّاعر العراقي محمد مظلوم.

هنا يُطرح هذا السّؤال: كم قارئًا مستعدًّا لأن ينسحب من القراءة، قبل أن يعرف ما حدث بعد الوصول إلى بيت أدونيس؟ إنّها براعة الحيلة في أسر القارئ، حيث يصبح تحريره مشروطًا بمكوثه على قيد القراءة، وهو ما نصادفه كثيرًا على مدار الحوارات، التي تضمّنها الكتاب، بما يحوّل الحيل إلى توابل. سؤال إضافي ثانٍ: ما قيمة حوار صحفي إذا لم يتوفّر على توابلَ خاصّة؟ سؤال الختام: متى يُخرج لنا علي سعيد، الذي أبان في هذا الكتاب عن قدرة سردية غير نمطية، روايةً من حقيبته الجلدية؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو.. جاحظ يكمل الغناء

جبور الدويهي.. حميمية السرد