29-مارس-2023
lonely

درجت العادة في السنوات الأخيرة، بعد الانهيار الذي بدأ يضرب لبنان نهاية عام 2019، وخلال مرحلة تفشي جائحة "كورونا" على وجه الخصوص، أن آخذ على عاتقي زيارة المتاجر وأماكن التبضع، فأبتاع، وبشكل مضّطرد ودوري، الحاجيات التي كانت تنقصنا في المنزل، سواء الحاجيات العامة، أو السلع، أو الملابس، أو الطعام، أو مياه الشرب، أو أدوات التنظيف، أو بعض الوجبات السريعة من هنا وهناك.. الخ.

درجت العادة أيضًا أن أبتاع الأغراض، كل أنواع الأغراض، التي كنا بحاجة إليها، وتلك التي كان من الممكن أن نحتاجها في وقت ما في المستقبل القريب، خصوصًا في هذه البلاد التي لا لحظات أمان فيها. لقد تكثّف هذا الأمر بسبب انشغال زوجتي بالعمل "عن بعد"، وبسبب وجود بعض الفراغ في وقتي، وللحاجة المستمرة التي تعصف بنا في بلد يتجذّر في الانهيار وما يرافقه من ضرورة تخزين كل ما يمكن أن يصمد أكبر مدّة ممكنة، وكل ما لا يرتبط استمرار جودته بعوامل الزمن.

درجت العادة أيضًا أن أبتاع الأغراض، كل أنواع الأغراض، التي كنا بحاجة إليها، وتلك التي كان من الممكن أن نحتاجها في وقت ما في المستقبل القريب، خصوصًا في هذه البلاد التي لا لحظات أمان فيها.

كنت أبتاع، فوق كل ذلك، السكاكر والشوكولاتة والحلويات والعصائر لأولادي، وأبتاع السلع والحاجيات التي يحبونها، وتلك البدائل التي كنت أرجّح أنها أقرب إلى مزاجهم. لا بل كان القسم المخصص للسكاكر، وذلك الخاص بالعصائر، قسمًا أمُرّ فيه، وإليه، بشكل دوري ومستمر وثابت، فأبتاع منه كل النواقص، سواء كانت نواقص رحلة أولادي اليومية إلى السجن المسمى مدرسة، أو نواقص ضروريات مكوثهم اليومي في السجن الآخر المسمى منزل. فقد زادت الحاجة إلى تعويض قلة عدد النزهات والرحلات جرّاء الانهيار والجائحة وغيرها من الأسباب الأمنية والصحية والاجتماعية والمادية التي تعصف بلبنان. لقد كانت ألواح "الشوكولاتة" هي علاج الأطفال النفسي هذه المرّة، كما كانت الألواح ذاتها علاج الكبار النفسي عند كل مأساة أو نقص يعيشه الشخص في حياته في غير مرّة.

أما بعد أن طفح الكيل واتخذنا قرار هجرة عائلتي، وبعد أن تم تنفيذ هذا القرار وانصرفوا للإقامة ولنيل جنسية بلد يحترم نظامه وقوانينه أدنى مقومات الطفل وحقوقه بالإضافة إلى مقومات البالغين وحقوقهم، بلد يعمل على تنمية المقيمين فيه تربويًا ونفسيًا ومدنيًا وعلميًا وصحيًا بمعزل عن جنسياتهم، بدأت ترتسم في رأسي علامة استفهام كبيرة عن الكيفية التي أستطيع أن أزور فيها المتاجر التي كنت أزورها. فأنا اليوم لا أعرف لمن أتبضع، وكيف أتبضع، وما هي خارطة الطريق التي سأسلكها وفق منطق أولويات التبضع، ووفق ضروريات المكان وسرعة إتمام المهمّة، لا بل أضعت ملامح حركتي وسياقاتها بين الرفوف والأقسام والبرادات وما إلى ذلك.

لا أعرف فعليًا ما الذي سيكون الأمر عليه في زيارتي التالية "للسوبرماركت"، حين أقف مشدوهًا أمام الرفوف، لا لغلاء السلع والحاجيات عليها فحسب، الغلاء الذي يشغل اللبنانيين اليوم بسبب تبدّل سعر صرف الدولار بين اللحظة والأخرى في بلد يستورد كل شيء من الخارج، بل أقف مشدوهًا لعطب في مخيلتي التي تراكمت خلال السنوات الأخيرة، وقد أطحى في الذاكرة لفراغ هيمن في الروح وفي الوعي جرّاء هجرتهم.

لا أعرف فعليًا ما الذي سيكون الأمر عليه في زيارتي التالية "للسوبرماركت"، حين أقف مشدوهًا أمام الرفوف، لا لغلاء السلع والحاجيات عليها فحسب، الغلاء الذي يشغل اللبنانيين اليوم بسبب تبدّل سعر صرف الدولار بين اللحظة والأخرى في بلد يستورد كل شيء من الخارج، بل أقف مشدوهًا لعطب في مخيلتي التي تراكمت خلال السنوات الأخيرة، وقد أطحى في الذاكرة لفراغ هيمن في الروح وفي الوعي جرّاء هجرتهم، أو لربما جرّاء الوحدة التي أعيشها اليوم والتي تفرض نوعًا جديدًا من الحاجيات والمقتضيات التي هي من ضروريات الاستمرار. أم تراني بحاجة إلى إعادة ترتيب ملكة التبضّع، وإعادة تنظيم آلياتها التي اكتسبتها خلال الأعوام الأخيرة، بعد أن انقلبت الأحوال رأسًا على عقب؟

ليس الأمر ضربًا من الـ "دراما"، وبالطبع ليس محاولة مستميتة لاستدرار العطف، أو لجذب بعض الاهتمام الذي نحتاج كلبنانيين الكثير منه في لحظات الانهيار التي نعيشها، سواء تلك اللحظات التي أعقبت انفجار المرفأ، أو لحظات الظلام الدامس الذي يهيمن بسبب أزمة الكهرباء المستمرة منذ عقود، أو بسبب النزيف المستمر للعائلات والأحبّة. لكن تلك الغرابة المتأتية عن كيفية فروغ الأشياء من معانيها وهيمنة الفراغ عليها، الفراغ الوظيفي قبل العاطفي، لافتة جدًا، إذ تعيد الإنسان إلى اللحظات الخام، وإلى آلية تراكم العناصر في مجموع الحساسيات التي اكتسبها الفرد في سير الخبرات الماضية. فحين تصبح الأشياء مجرد ذكرى باهتة، لا روح حيّة فيها ولا أي حرارة في النَفَس، لا طعم ولا نكهة ولا رائحة، يهيمن نوع من الفراغ الوجودي، فراغ في الروح وبين الأضلع، فراغ في المعنى وفي إمكانية السياق، فراغ تسري معه قشعريرة جرّاء البرودة التي تعشعش في الخطوط المتقدمة لتلامس العظام والنسيج. أما الأمر الأغرب من هذا وذاك هو كيفية تحوّل الأشياء، كل الأشياء، من طابعها الوظيفي لتصبح عبئًا لا أكثر، إذ تتحول لتصبح مجرد امتداد مكاني وزماني لأبعاد غير واضحة المعالم، ولأطعم لا نكهة فيها ولا أي نوع من أنواع الملمس والرائحة.

migration
أما بعد أن طفح الكيل واتخذنا قرار هجرة عائلتي، ترتسم في رأسي علامة استفهام كبيرة عن الكيفية التي أستطيع أن أزور فيها المتاجر التي كنت أزورها. (GETTY)

في هذه اللحظة بالتحديد، يعيد الفرد منا البحث في كافة البديهيات والمسلّمات، يفكّك ويعيد تركيب كل ما يظهر أمامه، لعله يستطيع تلمّس طريقة ما للتواصل مع الأقرب إليه. لعله يستطيع ربط ووصل بعض ما انقطع. لكن، بالطبع، دون أي جدوى.

ومع مرور الزمن، تعلن ضرورات الحياة أن التبضّع والحاجيات ليست وحدها التي فرغت من مضموناتها، فالمنزل أيضًا أصيب بشظايا الفراغ من أصوات الأطفال، ومن دفئه المتأتي عن حركتهم. فرغ من رائحة أنفاسهم كذلك، فانتشر البرود بين الجدران، تمامًا كما اضمحل الجسد وخار لكن على مستويات أوسع. لقد اضمحلت، فوق كل هذا، أنواع الهيئات والخيالات التي كانت ترتسم في المكان وفي ملامح الزمان وتفاصيله.

لقد هيمن الفراغ على كل شيء، على المساحة وعلى التفاصيل، فاتسّعت المساحات بين جدران المنزل وباتت تشكّل متسعًا لكل أنواع الحركة وكل أنواع النشاطات، خصوصًا تلك التي لم أعد أنوي ولا أقوى على القيام بها. اتسع كل شيء فجأة فضاق في المخيلة، وضاقت معه المخيلة نفسها، وانعطبت كافة إمكانات الإبداع، وعادت تفاصيل تعاقب الصور واللحظات تتلمّس طريقها في الذاكرة.

لقد هيمن الفراغ على كل شيء، على المساحة وعلى التفاصيل، فاتسّعت المساحات بين جدران المنزل وباتت تشكّل متسعًا لكل أنواع الحركة وكل أنواع النشاطات، خصوصًا تلك التي لم أعد أنوي ولا أقوى على القيام بها.

اليوم، وبعد حوالي الشهر على إعادة انبعاثهم خارج لبنان، مازال المكان فارغًا، وإن بدأ يمتلئ بأصواتهم عبر التقنيات الحديثة، وعبر المكالمات الصوتية أو تلك المصورة عبر الفيديو والشاشات الخالية من الملمس والرائحة، الفارغة من العناق، المعزولة عن حرارة التفاصيل التي تجعل المشهد مكتملًا. يتجذّر الانهيار يوميًا ويتعمّق معه هذا الفراغ الممتد، وتتعمق معه كل مشاعر الغربة بالانتماء إلى المكان المسمّى "وطن"، والذي فقد وظيفته النفسية. لقد انهارت معه خيالات كل إمكانيات البناء والمراكمة، فتُرِكت كافة تفاصيل المكان لمسعى واحد، مسعى الالتحاق بأولئك الذين نحب، أولئك الذين يقفز الشغف من صدورنا حين نراهم مقبلين علينا في أي لحظة.

لربما انقلبت الآية قليلًا، أو كثيرًا مع تجذّر الانهيار والجرأة على اتخاذ القرارات الصعبة. لقد اتضحت الحقيقة المرّة لأول مرة في تاريخ البلاد. اتضحت وها هي تقف أمامنا عارية وقابلة لارتسام كل الملامح والتفاصيل التي كانت مخبأة. "الوطن"، إن كان هناك أي مدلول ووظيفة لهذه الكلمة، ليس تلك البلاد الممتدة التي نعيش فيها بأجسادنا، ولا هو مجال تلك الخبرات التي نكتسبها، ولا مكان تكاثر الأجداد ولا ارتسام مجموع العلاقات التي ننسجها مع من نحب ومع أولئك الذين يرحلون، بل هو، فوق كل شيء، مكان امتلاء كل أنواع الفراغ، وهو مكان القلب المرافق لنمو دستة الأحلام تلك، أحلام أولادنا.