05-يونيو-2023
الفنان أحمد زكي

الفنان أحمد زكي

عندما نتحدث عن أحمد زكي، الفنان والممثل الكبير، فلا يمكننا ببساطة إحصاء العوامل التي أدت إلى  نجوميته السينمائية المركبة، التي يمكن اعتبارها من أغرب وأعقد السير الذاتية لممثل هو نفسه يُعتبر شخصية مركبة.

أحمد زكي متولي عبد الرحمن بدوي، المولود في مدينة الزقازيق في محافظة الشرقية 18 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1946، والذي لم يعش في كنف والده الذي توفي بعد ولادته، وعاش يتيمًا لطيمًا كما يقال بعد زواج أمه. هذه الحياة القاسية المركبة لم تنعكس في الشخصيات التي لعبها لاحقًا (وهنا المفارقة)، بل انعكست على فهمه لفن الممثل، لتصبح أي شخصية، سينمائية كانت أم مسرحية أم درامية تلفزيونية، هي مسار بحث في الأعماق من التشكل إلى لحظة القص الحَدَثية، وفي هذا المسار يأخذ البحث أسلوب التنقيب عن اللحظات الاستثنائية التي صنعت التحولات في الشخصية، وصولًا إلى سلوكها الحي والمتفاعل في لحظة وقوفها تحت الضوء.

السلوك في الشخصية التي يلعبها أحمد زكي هو نتيجة وليس طبيعة، وهذا ما يُفسر مدى البراعة والاستغراق والتماهي لديه وقت اللعب. استثنائية سيرة أحمد زكي تكمن في جنوحه المبكر نحو عوالم فن التمثيل واتجاهاته،  فالشخصية تبدأ عنده من حيث ينتهي تاريخها، واللعب يبدأ من حيث ينتهي العمل.

لم يكن في قائمة أحلام الشاب الأسمر ذي الأشعر الأجعد أن يصبح نجمًا مثل نجوم السينما اللامعين، كرشدي أباظة وأحمد رمزي وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار.. وغيرهم؛ كان الفن بالنسبة له غواية في علم الممثل وفنون التشخيص. والمتتبع لرتم الأعمال التي شخّص فيها يراه يراكم التجربة فوق التجربة كي يصنع لنفسه أسلوبية وإضافة، يمكنها أن تكون مرجعًا في علم الممثل في مصر والعالم العربي. كأن حلمه كان أوسع من أن يكون ممثلًا واقعًا في فخ النجومية التي تتآكل فيها الموهبة وتبرد فيها الغواية ولايبقى منها سوى الدعاية البراقة، بل يمكن أن يلحظ المرء أن حلمه كان صناعة نجوم ممثلين ينتمون إلى مدرسة أحمد زكي في التشخيص. لذلك كان دائم الهرب من أطر النجومية إلى فضاءات فن الممثل وجماليات التجريب.

إليكم خمسة من أهم أفلام أحمد زكي وأكثرها تأثيرًا في ترسيخه سواء في الشباك أو في المجالات الأكاديمية والدراسية المهتمة بعلم الممثل.


1- البريء

"البريء" فيلم مدرج ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. أهمية الفيلم وفرادته معًا في أنه يُوثق لمرحلة نهاية الرومانسية السياسية التي مثّلها حكم جمال عبد الناصر، وبداية حقبة الواقعية السياسية التي تبنتها سلطة أنور السادات، إذ تظهر فيها الحياة السياسية في مصر على حقيقتها دون تجميل ودون خضوع لخطابيات براقة. فسيناريو الفيلم يورط الإنسان المصري البسيط ليكون حلقة وصل بين مفهوم السياسة ومفهوم الوطن، ويدفعه ليدرك بعفوية وفطرة سليمة، متى تكون السياسة في خدمة الوطن، ومتى يكون الوطن في خدمة السياسة، وهذا ما برع أحمد زكي في إبرازه بتماهٍ شديد، من خلال المشاعر الدفاقة التي كانت تظهرها عيناه والجمل الانفعالية الطبيعية التي كانت ترتسم على وجه.

كتب السيناريو وحيد حامد وأخرجه عاطف الطيب، لكن الفيلم ظل مقيدًا وممنوعًا من العرض لمدة 19 عامًا، وشُكِّلت لجنة مكونة من وزير الدفاع والداخلية والثقافة لإجازة عرضه في دور السينما المصرية؛ لكنها طالبت بحذف مشاهد من الفيلم وهو ما لم يقبل به عاطف الطيب وبقي ممنوعًا من العرض حتى عام 2005، وتكريمًا لرحلة الفنان الكبير أحمد زكي وافق الوزير فاروق حسني على عرضه دون حذف أو قص أو تعديل.

يعد "البريء" واحدًا من أهم المراجع العملية في فن الممثل، من خلال المعايشة التي أظهرها أحمد زكي في تقديم الدور، والتي أبرز فيها قدرته على توظيف مدرسة التشخيص في السينما المصرية.



2- أرض الخوف

في فيلم "أرض الخوف"، نتعرف على يحيى المنقباوي ضابط بوليس بهوية مهنية شديدة الوضوح والاستقرار، رجل قاس وواثق بشكل صميمي في مضماره المهني، لكنه ينطوي على شخص دافئ القلب والصوت، تلتمع عيناه برقة في حياته خارج مضمار الشرطة والجريمة.

يقدم أحمد زكي في هذا الفيلم واحدة من أعقد الشخصيات في مسيرته كممثل، وفيها يظهر نضج بحثه في فن التشخيص، متجاوزًا مفهوم التشخيص عبر المعايشة إلى النحت في التشخيص، وهي المرحلة الأكثر عمقًا في هذا المنهج، وهي العمل على البعد السيكولوجي في الشخصية المركبة؛ والغوص في أعماقها واستخراج جوانب الشر الدفينة فيها وإظهارها بشكل تدريجي وبطيء إلى أن يطغى هذا الجانب تمامًا، وتدخل الشخصية في متاهة تتصادم فيها الذاكرة مع السلوك، ويتمدد فيها اللاوعي على مساحة الوعي والإدراك ويصل حتى حدود الشكل، فيبدو الشخص مختلفًا تمامًا دون أن يلجأ إلى المكياج والتنكر، تغيير يبدأ من الداخل إلى الخارج. وهذا ما أظهره أحمد زكي بأستاذية في هذا الفيلم، الذي يبدأ فيه كضابط شرطة توكل إليه مهمة اختراق عصابات المخدرات للإيقاع بهم، فيفقد الخيط الفاصل بين مهمته وبين الانخراط في هذا العالم، ليصبح واحدًا منهم، بل وأكثرهم  قوة وسطوة.

الفيلم من تأليف وإخراج داود عبد السيد.



3- شادر السمك

تعد شخصية أحمد أبو كامل، الأجير عند أحد كبار التجار في شادر السمك - وهو مصطلح محلي يشير إلى سوق خاص بالسمك- تعدّ امتدادًا لاستغراق أحمد زكي في مدرسة التشخيص مستندًا إلى تجارب سابقة مثل "اسكندرية ليه" و"البريء".

لكنه هنا، في فيلم "شادر السمك" يؤسس عبر أداء مستقر تتنازعه قيم عامة كمواجهة الظلم والنخوة والجدعنة لشخص آت من القاع، وكيف يمكن لهذه القيم أن تتحول سلوكيًا في حال الخروج من القاع نحو القمة إلى غرور وكبرياء وجنون عظمة.

الصدق والتبني الشديد للقيم الخيرة في مرحلة القاع هو ما قاد إلى تصديقه بشدة في مرحلة القمة، وما صاحبها من تحولات. يناصر أحمد أبو كامل الأجير السيدة عنايات (نبيلة عبيد) بعد أن توفي زوجها تاجر السمك، فتحاول الاستمرار في العمل لإعالة ابنتها فتصطدم بالتجار الطامعين بها. يقف الأجير إلى جانبها ويتزوجها وينجح في نيل مكان ومكانة في السوق، حتى يسيطر عليه تمامًا. فيبدأ بالنظر إلى أعلى ويغدر بعنايات ويتزوج ابنة المأمور، ويمنع السمك عن كل التجار الكبار في الشادر.

وبعد أن يتملك الغرور وجنون العظمة منه، ينزل إلى شادر السمك مزهوًا بانتصاره على الجميع فيرديه التجار برصاص بنادقهم بعد أن تحول إلى وحش لا رحمة فيه.

الفيلم من تأليف نبيل نصار، وإخراج علي عبد الخالق.



4- اضحك الصورة تطلع حلوة

يقتحم أحمد زكي في هذا فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" مساحة مختلفة في سيرته كممثل، وينتصر على الشخصية جيدة الصنعة. فشخصية سيد الغريب المكتوبة بأسلوب روائي أخاذ كان لا بد من تطويعها وترويضها أدائيًا إن صح التعبير، فالشخصية المصاغة بصدق وحرفية عالية، كما يقول الروائي خيري شلبي، هي شخصية ضد التمثيل، التمثيل يفتتها ويبدد طاقتها الكامنة، وتحتاج مشخصًا يذوب فيها ويضيف إليها، وهذا ما فعله أحمد زكي بإضفاء الطرافة وحس الدعابة على شخصية ذات بعد ميلودرامي تحاكي موضوعة الفروق الطبقية واختلاف المستويات الاجتماعية.

تدور أحداث الفيلم حول سيد الغريب، الذي يهاجر من السويس للقاهرة صحبة أمه وابنته التي دخلت كلية الطب، لتصبح ابنته (منى زكي) صلة وصل بين طبقتهم الاجتماعية والمستويات الاجتماعية الأخرى لزملائها في الكلية. يقع طالب من عائلة أرستقراطية في حبها، لكن هذا الطالب الثري ابن العائلة المرموقة لن يجد سبيلًا للزواج من الفتاة الفقيرة، ابنة المصور الفوتوغرافي. ليجد الأب الحنون نفسه في مواجهة أكثر من أمر خجل ابنته منه ومن مهنته، وتحدي مواجهة الطبقية المتمثلة في علاقة الحب المستحيلة تلك. الفيلم من تأليف وإنتاج وحيد حامد، ومن إخراج شريف عرفة.


5- النمر الأسود

يُعتبر فيلم "النمر الأسود"، المبني على أحداث قصة حقيقية، أحد أهم أفلام أحمد زكي الذي يحقق فيه شغفه بالتشخيص من خلال شخصية حية، وهي قصة حياة بطل رياضي في رياضة الملاكمة. الاستثنائي في قصته هي العناصر الدرامية التي جعلت منه ذلك البطل، وهو ما يتقاطع مع مجمل أفلام أبطال الملاكمة، هذه الرياضة المثيرة لشهية السينما على مختلف المستويات الإنتاجية.

يقترب أحمد زكي في أدائه من روبيرتو دي نيرو في فيلم "الثور الهائج"، ويبتعد عن روكي بالبو لسلفستر ستالون، ليسوق في أدائه مجمل الإرهاصات الاجتماعية والحرمان والنبذ التي صنعت منه بطلًا يمثل بلدًا مثل ألمانيا في المحافل الدولية. هذه المعاناة الشخصية تبدأ من مصر للشاب القوي العامل في مهنة الخراطة. تتاح له فرصة السفر إلى ألمانيا للعمل في مهنته هناك، ورغم تردده في البداية لأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لكن يهاجر، وهناك يتقلب على جمر النبذ والعنصرية والإقصاء إلى أن يدخل مجال الملاكمة، ويصبح بطلًا على مستوى ألمانيا.

الفيلم من إخراج عاطف سالم.