11-يناير-2024
لقطة من فيلم Hidden Figures

لقطة من فيلم Hidden Figures (Imdb)

تمثّل أفلام السيرة الذاتية تحديًا فنيًا وجماليًا وتاريخيًا فريدًا لصناع السينما. فالتصدي لحكاية مبنية على وقائع حدثت بالفعل لأشخاص عاشوا تجارب استثنائية، هو خوض مركب في عالم متعدد الطبقات، يبدأ بالقدرة على الإحاطة بالنوع والتخصص الذي يشكل عالم فيلم السيرة الذاتية، ثم ينتقل إلى تحقيق فضاء الحكاية المكاني بوصفها حكاية تاريخية. وهذا يتطلب إحاطة مختلفة من نوع آخر تتعلق بالشكل والمزاج العام والذائقة والأزياء، والكثير الكثير من التفاصيل التي تمنح الفيلم طابعه الخاص والفريد، الذي يتميز به عن باقي الأفلام التي تتناول الحقبة الزمنية ذاتها.

ويتمثّل التحدي الأكبر في ابتكار مساحة الخيال المطلوبة داخل القصة الواقعية، وتغذيتها بالمبررات المناسبة كي لا يجنح الفيلم خارج منطقه التاريخي والواقعي، ويظهر التفكير الإبداعي بوصفه جزءًا من مرجعيته، الحقيقية.

هذه التحديات الجمة هي بالضبط إشكاليات أفلام السيرة الذاتية وجمالياتها في آن واحد، فهي مخاطرة سينمائية من ناحية، ومغامرة إبداعية من ناحية أخرى. كما أنها أفلام إبداعية من جهة، وتجارية من جهة أخرى.

لن تجد مخرجًا متخصصًا في صناعة أفلام السيرة الذاتية، لكنك ستجد ممثلين ومخرجين عظام صنعهم هذا النوع من الأفلام

إنها سينما تتطرق إلى كل شيء، وتدخل في مختلف المجالات، لكنها ملتزمة في الوقت ذاته بالحذر من الوقوع في التوثيق، والانجراف كثيرًا في عالم التخصص، وربما يمكننا أن نقول إنها سينما بمزايا كيميائية، يتطلب النجاح فيها إدراكًا دقيقًا بكل مكون،ومقداره في تشكيل حكاية سينمائية مشوقة وإبداعية، وحقيقية في الوقت ذاته.

لذلك، لن تجد مخرجًا متخصصًا في صناعة أفلام السيرة الذاتية، لكنك ستجد ممثلين ومخرجين عظام صنعتهم هذه السينما ولا تزال قادرة على صناعة المزيد. وفي المقابل، فإن أفلام السيرة الذاتية ليست طريقًا آمنًا لصناع السينما الشغوفين بجعل أنفسهم أيقونات في هذا العالم، إذ هناك الكثير من هذه الأفلام نحت باتجاه التخصص، وصارت أفلامًا تخصصية في بعض المجالات، وفقدت قيمتها كحكاية سينمائية في المقام الأول. فهي ليست تاريخية على الرغم من استنادها إلى تاريخ حي، وليست تخصصية على الرغم من حتمية إدراك كل تفاصيل التخصص المراد استكشافه عبر الشخصية السينمائية ومجال تفردها.

إنها سينما ليست خيالية بالمطلق، ولا واقعية بالكامل، بل حكاية تتجول في الواقع دون أن تكون أسيرة له. ولدينا في قائمتنا اليوم مجموعة متنوعة من أفضل أفلام السيرة الذاتية إمتاعًا وتوازنًا لناحية تقدير المكونات المطلوبة لصناعة حكاية سينمائية.


1- Saving Mr. Banks

ربما يمكننا القول إن فيلم "Saving Mr. Banks"، نموذجًا قويًا لذلك التوازن الدقيق الذي تشترطه أفلام السيرة الذاتية القوية والناجحة. يتحدث الفيلم عن حياة الكاتبة البريطانية الشهيرة باميلا ليندون ترافرز التي تعد واحدة من أشهر الكتّاب في بريطانيا، ويتطرق إلى المفاوضات الصعبة التي استغرقت قرابة عشرين عامًا لبيع حقوق روايتها "ماري بوبينز" إلى شركة ديزني الصاعدة في مجال صناعة السينما والرسوم المتحركة.

التزم الفيلم بعرض الحكاية بهذه الزاوية، التي حملت تفاصيل المفاوضات بين السير والت ديزني، والكاتبة ترافيز العدوانية، شديدة التطلب، والعنيدة، مقابل مرونة والت ديزني، ومحاولته الفوز بالحقوق. وأثناء ذلك، تحدث مفارقات عدة كانت طريفة أحيانًا، وحزينة وعميقة التأثير في أحيان أخرى.

دخل الفيلم في عالم الكاتبة النفسي، وعمل على تحليل الأبعاد النفسية وراء عنادها وإصرارها المجهد على عدم تغيير أي شيء في حكايتها الأصلية، والتدخل في أصغر التفاصيل، لتمنح شركة ديزني الموافقة. إذ صنعت الكاتبة تلك الحكاية عن والدها، وكانت حريصة على حماية ذكراه، وقد أظهر الفيلم أن هذا الصراع والعناد يتعلق بحماية صورة والدها، أكثر من كونه متعلقًا بطبيعتها الإنكليزية المتحفظة.

ولا بد هنا من الإشارة إلى الأداء التمثيلي الساحر الذي قدّمه كل من النجم توم هانكس بلعبه دور والت ديزني، والنجمة إيما تومسون التي أدت شخصية ترافيز. رُشّح الفيلم لـ13 جائزة أوسكار، وفاز بخمسة، منها أوسكار أفضل ممثلة ذهبت للممثلة لإيما تومسون.



2- Hidden Figures

يستعرض الفيلم نضال ثلاثة سيدات أمريكيات من أصول أفريقية خلال ستينيات القرن الفائت، أي خلال الحقبة التي كان فيها الفصل العنصري، وانتهاك حقوق السود المدنية، يشكّل عائقًا كبيرًا أمام وجود دور حقيقي للسود في مختلف المجالات العلمية والفنية والثقافية.

يختار الفيلم واحدة من تلك السبل النضالية التي انتهجتها سيدات أمريكيات أفريقيات لحجز مكان لهن في المجتمع العلمي الأمريكي، خلال فترة استعار حرب الفضاء في إطار التنافس الأمريكي والروسي، بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية.

ورغم أن الفيلم يدخل عالمًا تخصصيًا شديد التعقيد يقوم على حسابات فلكية ورياضية قد تكون مرهقة، لكنه استطاع أن يمرر ذلك ببساطة، ويُظهر تناقضات المجتمع الأميركي آنذاك الذي يريد عنان الفضاء، لكنه وللمفارقة يخصص للعمال السود في "ناسا" أباريقًا خاصة للقهوة، ويمنعهم من استخدام حمامات البيض.

شكّل الفيلم انتصارًا لكل الشخصيات العلمية التي طمستها فترة الفصل العنصري، وإحياء لذكراهم وامتنانًا لجهودهم ونضالهم. فيلم ذكي وحساس استطاع ولوج الطبقات المختلفة لهذا النوع من السينما، دون إفراط في تقديم مكون على حساب آخر.

وقد برع بشكل كبير في أداء الشخصيات كل من كيفن كوستنر، وتاراجي بيندا هينسون، إذ قدم الاثنان أداءً قويًا شديد التناغم، خاصة في مشهد عودة العالمة كاثرين جونسون من رحلتها اليومية للبحث عن حمام خاص بالسود، ومونولجها العميق والمؤثر حول الفصل العنصري.

أٌنتج الفيلم عام 2016، وهو من إخراج تيودور ميلفي.



3- La Vie en rose

رغم كل ذلك الإحساس بالدفء والرقي الذي يحمله صوت المغنية الأسطورية إديث بياف، التي وصفتها الصحافة الأمريكية بأنها "روح باريس"، إلا أن حياتها القاسية، لا صوتها، هي التي شكّلت مادة مرنة ومطواعة لحكاية سينمائية فريدة.

يتنقل الفيلم بحرية بين أربع مراحل من حياة النجمة الفرنسية مُظهرًا ببراعة شديدة تأثير كل مرحلة في سلوك بياف وخياراتها الشخصية والفنية. ورغم صوتها القوي الساحر الذي يثير الدفء والحميمية، إلا أنه جاء مناقضًا لمفردات الفيلم البصرية التي كانت تبعث على الشعور بالحزن والقسوة والخوف.

يستعرض الفيلم مرحلة إدمان إديث بياف على المخدرات، وسقوطها التدريجي في مضاعفاتها وهلوساتها. كما يستعيد عبر يقظتها وغيوببتها طفولتها القاسية، وحياتها عند جدتها التي كانت تدير ماخورًا. إنه فيلم مشغول بذكاء وبإدراك عميق للعلاقة الخفية بين الفيلم الموسيقي والقصة السينمائية من خلال توظيف ذكي لأغنيات بياف في سياق استعراض حياتها الشخصية والفنية.

ولا بد من القول إن الممثلة ماريون كوتيار قد لعبت الدور بطريقة عميقة وبارعة للغاية تجعل المرء يشعر بأنها لم تكن تمثل إديث بياف، بل كانت هي إديث بياف، وقد نالت عن هذا الأداء الساحر، الذي أدت فيه كل مراحل الشخصية من المراهقة إلى الشيخوخة، أوسكار أفضل ممثلة في عام 2006.



4- King Richard

فيلم عن الإيمان والمثابرة والرؤى الحية التي تشكلها الأحلام، والسعي خلفها لتحقيقها. إنه فيلم يكرّم العزيمة والإصرار والإيمان، ويثبت أن أي مستحيل يمكن أن يتلاشى أمام التخطيط والالتزام بما خُطِّط. وهو، في المقابل، فيلم يكرم الأب ويأصّله سينمائيًا ويُعلي من شأنه.

والفيلم هو حكاية الأب الأمريكي الأسود الشهير ريتشارد ويليامز، الذي وضع خطة من نحو ثمانين صفحة لابنتيه قبل أن تولدا، وتتضمن خطوات واضحة وملموسة للسيرة المهنية لكل فتاة في عالم التنس من البداية وحتى الاحتراف.

يلمّح الفيلم إلى أن التقاليد الرياضية والاجتماعية تستبعد السود من عالم التنس، وتضعهم في إطار رياضات محددة، والاستغراب الذي اضطر للتعامل معه من قبل نوادي التنس التي كانت تضم البيض فقط، والاستهجان الذي كان يلاحقه من جيرانه في حيه الفقير؛ هو ما دفعه لإقحام ابنتيه في عالم مخصص للبيض، إذ كان ريتشارد يتجاهل كل ذلك وينظر فقط نحو الهدف، ليصنع في النهاية السيرة المهنية الرياضية الكبيرة لنجمتي التنس فينوس وسيرينا ولياميز.

قدّم ويل سميث الذي لعب دور الأب أداءً استثنائيًا مكّنه أخيرًا من دخول نادي الممثلين السينمائيين الحاصلين على الأوسكار، لكنه كان دخولًا صاخبًا ومدويًا مصحوبًا بصفعة على وجه زميله كريس روك. عدا عن ذلك، كان فيلم "الملك ريتشارد" تتويجًا مستحقًا لمسيرة سميث الحافلة بالأداءات التمثيلية الجميلة والمتقنة.