18-مارس-2021

جنود إيطاليون في الحرب العالمية الأولى يكتبون الرسائل (Getty)

أورثتنا الكتب المدرسية مفهومًا كالحًا عن التاريخ: إنه تدوين لأعمال القادة والسلاطين الذين شيدوا وغزوا وانتصروا ليصنعوا عصور الازدهار، أو تخاذلوا وهُزموا وانخرطوا في الدسائس وغرقوا في ملذات القصور ليهووا بالأمة إلى عصور الانحطاط..

تريد الكتب المدرسية القول إن التاريخ لا يصنعه الحكام وحسب، بل ويعيشونه وحدهم كذلك، أما ملايين الأرواح التي عاشت وماتت في ظلهم، فهم مجرد كومبارس

وفق هذا المعنى فالتاريخ لا يصنعه الحكام وحسب، بل ويعيشونه وحدهم كذلك، أما ملايين الأرواح التي عاشت وماتت في ظلهم، فهم مجرد كومبارس يكملون المشهد ويضفون عليه لمسة مهابة، يجتمعون للهتاف للقائد الفاتح فيصبحون رعية صالحة، أو يحتشدون للسخط على الغلاء وضيق سبل العيش فيغدون دهماء ورعاع..

اقرأ/ي أيضًا: علي شريعتي في رسائله.. الكتابة كمحوٍ للغياب

وماذا عن البشر الذين أورثونا الأمثال والأغاني وقصص الحب؟ ماذا عن الأسواق والحواري والكتاتيب والصنائع والمطابخ؟ ماذا عن الأيدي التي صنعت من أشياء العالم أنوالًا ومشربيات وفسقيات وآلات موسيقى؟

يغدو من اللغو إذًا الحديث عن "مخزن الحكمة والدروس المستفادة واستشراف المستقبل"، ذلك أن التاريخ، هذا النوع من التاريخ، هو في الواقع مرتع للأوهام والضلالات والكليشات والصور المبسترة.

ثمة، لحسن الحظ، نوع آخر من كتب التاريخ. كتب تسعى إلى تقديم صورة أكثر عمقًا وشمولية، فتنظر إلى الحقب المدروسة على أنها أنماط عيش متكاملة، يتضافر فيها السياسي والثقافي والمعيشي والديني..

"سلسلة الحياة اليومية عبر التاريخ"، التي نشرتها دار "غرين وود" وصدرت ترجمتها العربية عن "مشروع كلمة"، تنتمي إلى هذا النوع. نحن هنا أمام تاريخ الناس العاديين، البشر الذين من لحم ودم. نراهم في حياتهم اليومية وهم يكابدون همومهم ومخاوفهم، ويكدون في سبيل أحلامهم. ونستمتع في الاطلاع على ثقافاتهم وطرائق عيشهم وعاداتهم ورؤاهم للعالم. ولا تكون الحصيلة متعة ضافية فقط، بل ومعرفة أكثر دقة وموثوقية، تتبخر فيها الأوهام والأفكار المسبقة الساذجة.

يقدم كتاب الحرب العالمية الأولى، (تأليف نيل هايمان، ترجمة حسن عويضة)، صورة للحرب العظمى من زاوية مختلفة، من تحت، من جهة الجنود العاديين والطباخين والممرضات والمدنيين في الخطوط الخلفية، فلا يظهر القادة البواسل الحالمون بالنياشين، ولا تحضر العبقريات الاستراتيجية ولا الخطط الحربية البارعة، ولا أهازيج البطولة وتمجيد الأوطان.

بدلًا من كل هذا، تتصدر المشهد خنادق موحلة ومنتنة، ومعارك دائمة ضد القمل والبق، وهواجس ملحة حول قضاء الحاجة والاستحمام وسد الرمق، فضلًا عن معايشة ذلك الشبح المُحوّم والمهدد: الموت.   

يكتب جندي أمريكي إلى ذويه عن تجربة إنسانية تعاكس كل أساطير البطولة وكليشات التباهي والفخر، فقد كان ورفاقه يسيرون في أحد الحقول الفرنسية على الجبهة الغربية، عندما صادفوا خندقًا مترعًا بالأجساد البشرية المقطعة والمنتنة، فما كان من الجنود إلا أن أطلقوا فضلات بطونهم ملوثين ملابسهم بصورة مهينة، ولأن الجميع تقريبًا فعلوا ذلك فإن أحدًا منهم لم يشعر بالخجل، غير أن صمتًا مطبقًا خيم عليهم لأيام عديدة بعد ذلك.

وكتبت ممرضة بريطانية كانت تعتني بجرحى معركة "مارن": "كانوا جميعهم تقريبًا مصابين بجروح شظايا القذائف التي كانت مروعة أكثر من أي شيء رأيته أو شممته من قبل، ليست جروح بندقية ماوزر الألمانية في حرب البوير إلا ثقوب دبابيس مقارنة بها".

ولكن الكتاب لا يهدف إلى أن يكون نداء دعائيًا ضد الحروب، فوسط هذا البؤس، وإلى جانب الخائفين والقانطين والفاقدين للمعنى، كان هناك رجال ونساء آمنوا بما كانوا يفعلون، وظلوا حتى اللحظة الأخيرة معتقدين بـ"قداسة الدفاع عن الوطن"، وبضرورة "تلبية نداء الواجب".

يسجّل المؤلف مفارقة لافتة، فقد دشنت الحرب العالمية الأولى دخول المرأة الفعلي إلى الخدمة العسكرية وبالتالي إلى ساحات الحروب، الشيء الذي رأت فيه نساء كثيرات مناسبة للانعتاق وتحقيق الذات. وقد عبرت ممرضة عسكرية فرنسية عن ذلك بوضوح عندما كتبت قائلة إن تلك كانت فرصتها الأولى لتبدو شخصية مهمة. "إن الفتاة الشابة في الحياة العادية لا تساوي شيئًا، أو هي قريبة من اللا شيء. لأول مرة سأصبح شخصًا ما.. سيأخذني العالم بالحسبان".

أثرت الحرب العالمية الأولى تأثيرًا عميقًا على نوعية طعام السكان في كل دولة من الدول المتحاربة

بالإضافة إلى تجربة القتال، يوثق الكتاب مختلف جوانب الحياة اليومية للجنود والأطباء والممرضين والمستخدمين: أمكنة المبيت، الحمامات، أنواع الأطعمة، الألبسة، الأمراض الشائعة، طرائق علاج الجروح، أنواع الأدوية، أسرى الحرب.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يستطيع الأدب؟

وفي الجزء الثاني ينتقل المؤلف بعيدًا عن خطوط القتال، إلى الجبهة الداخلية، مستعرضًا الحياة اليومية للمدنيين ومعاناتهم في شؤون الغذاء والدواء والعمل.. فقد أثرت الحرب تأثيرًا عميقًا على نوعية طعام السكان في كل دولة من الدول المتحاربة، ووصلت التوترات التي خلفها المجهود الحربي إلى داخل المطابخ وغرف الطعام في كل مكان، "ففي ألمانيا كان التأثير شديد الفداحة. هناك، شعر جميع السكان بألم الجوع والإذلال اليومي المتأتي من الوقوف في طوابير الغذاء والبحث عن الطعام والاشتراك في السوق السوداء".

أما المرأة، بعيدًا عن مناطق القتال، فقد شهد وضعها تحولًا جذريًا، إذ "سرعان ما اكتشف المشاركون الرئيسيون في الحرب أنه لا يمكنهم خوض الصراع من دون مساعدة نساء بلادهم. ولأن الرجال دخلوا الحرب بالملايين، بقي عملهم ليقوم به آخرون، وكانت المرأة جاهزة وراغبة في القيام بذلك".

تضم "سلسلة الحياة اليومية" عددًا من الكتب الأخرى ذات العناوين المغرية: "زمن العهد الجديد"، "عصر المغول"، "الطبخ في الحضارات القديمة"، "عصر الملاحة البحرية"، "العالم الإسلامي في العصور الوسطى"، "مدنيو آسيا في زمن الحرب"، "اليابان في القرن الثامن عشر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "حليب سوفييتي".. وجه آخر للحكاية

عندما يحزن الكاتب