17-فبراير-2024
ألهمت كتابات إدوارد سعيد الجيل الجديد الداعم للفلسطينيين (GEETY)

تحضر كتابات إدوارد سعيد بشكلٍ متكرر على مواصل التواصل الاجتماعي للرد على الرواية الإسرائيلية (GEETY)

يحضر إدوارد سعيد، مرة أخرى بعد حوالي 20 عامًا من وفاته، بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إذ أصبحت نصوصه، اقتباسات تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، ومقابلاته تَحضر بشكلٍ دائم، للرد على الرواية الإسرائيلية.

وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية مقالة لأستاذ اللغة الإنجليزية في كلية بروكلين بجامعة نيويورك، مصطفى بيومي، تناول فيه أهمية حضور إدوارد سعيد وكتاباته في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة.

كتابات إدوارد سعيد حاضرة، لأن القضية الفلسطينية، التي كتب عنها، لم يتغير فيها الكثير، وما ارتفع هو مستوى العنف الإسرائيلي

حضور سعيد على وسائل التواصل

يشير التقرير إلى أنّه "ليس من السهل معرفة كيف يجب على المرء أن يستجيب لمثل هذا الشر، ويبدو أن الكثيرين يلجأون إلى سعيد كدليل لهم". مضيفًا: "لم يكن العثور على مقاطع قديمة لإدوارد سعيد على وسائل التواصل الاجتماعي أمرًا صعبًا أبدًا، ومنذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، تم تناول أفكار سعيد واقتباساته ومقاطعه الأرشيفية على نطاق واسع من الكتب والمجلات والمنصات".

وبعد قرار إدارة جامعة كولومبيا، بتعليق أنشطة المجموعات الطلابية الداعمة للقضية الفلسطينية، مثل منظمة طلاب من أجل العدالة لفلسطين وأصوات يهودية للسلام، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تهكمت المجلة الراديكالية الساخرة "بيجون بوست"من قرار إدارة الجامعة، التي ظلت على مدى 40 عامًا مكانًا نشطًا لسعيد، والتي استشهد بيانها بكلمات لإدوارد سعيد.

وجاء في البيان، كتب سعيد ذات مرة: "دورنا هو توسيع مجال النقاش، وليس وضع القيود"، وبناءً على ذلك تقوم "السلطة السائدة في جامعة كولومبيا بتعليق عمل طلاب من أجل العدالة لفلسطين وأصوات يهودية من أجل السلام".

وتابع محرر "بيجون بوست" جيري ليم، بنشر فيديو توضيحي على منصة "تيك توك"، حول سعيد تحدث فيه عن "نفاق إدارة جامعة كولومبيا التي دعمت مرة حرية إدوارد سعيد للتعبير عن مواقفه حول فلسطين، لكنها تقيد رأي الطلاب اليوم حول نفس الموضوع".

وفي كانون الثاني/يناير، نشرت المجلة الأكاديمية "Social Text"، "نصًا جميلًا لستيفن شيهي، تحدث فيه عن سعيد عندما قام برمي حجر باتجاه إسرائيل عبر الحدود اللبنانية عام 2000".

ويشير مصطفى بيومي إلى أنّ كتاب "الأعمال المختارة لإدوارد سعيد 1996- 2006"، والذي شارك بتحريره مع أندرو روبين، وكلاهما من تلاميذ سعيد، قد زادت مبيعاته بعشرة أضعاف منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.

ويلفت النظر، إلى الحوار بين إدوارد سعيد وسلمان رشدي، الذي جرى في معهد الفن المعاصر في لندن عام 1986، إذ انتشر من جديدة على منصة "إكس"، بشكلٍ واسع.

وفي الحوار السابق، ذكر سعيد المواجهة مع بنيامين نتنياهو، السفير الإسرائيلي آنذاك في واشنطن، إذ تمت دعوته لنقاش تلفزيوني معه، لكن نتنياهو رفض الجلوس في نفس الغرفة مع سعيد حتى "لا يتلوث بحضوري"، وأصر نتنياهو على الفصل، مدعيًا أن سعيد كفلسطيني "يريد قتله"، ولاحظ سعيد أن هذا المشهد "كان في الحقيقة سخيفًا بالمطلق".

الحاضر دومًا

ويوضح بيومي بأنّ تداول إرث سعيد بين الفلسطينيين كان حاضرًا قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. ويشير إلى أنه، في عام 2022، نشرت مكتبة أضواء المدينة في سان فرانسيسكو "أشياءً قد تجدها مخبأة في أذني"، وهو كتاب شعر لمصعب أبو توهة، الشاعر الفلسطيني الشاب والمؤسس لمكتبة إدوارد سعيد في غزة، وتضمن الكتاب قصيدة بعنوان: "إدوارد سعيد، نعوم تشومسكي وتيودور أدورنو". ويلفت بيومي النظر، إلى أنّ القصيدة كتبت في إشارة لهجوم إسرائيلي سابق على غزة.

وفي عدوانها الحالي دمرت إسرائيل 13 مكتبة وقتلت 9 أمناء مكتبة. فيما غادر أبو توهة غزة إلى القاهرة حيث كتب: "عَبّد إدوارد سعيد الطريق أمام الكثير من الكتاب والمثقفين لكي يواجهوا السلطة بالحقيقة، وهذا مهم في ظل الخطاب صهيوني العنصري وغير الإنساني المستمر ضد الفلسطينيين".

ويوضح بيومي، بأن "هكذا خطاب ليس جديدًا ولن يختفي". ويستشهد بحديث لإدوارد سعيد عام 1979، قال فيه: "من الناحية العملية فالإثنية الوحيدة التي يتسامح الغرب مع الافتراءات ضدها بل ويشجعها، هم العرب".

ويربط بيومي، بين الاقتباس السابق من سعيد، وما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" قبل فترة، إذ ورد في تقريرها "شيطنة للسكان العرب في مدينة ديربورن بولاية ميشيغان"، وتضمن عبارة "المدينة التي يعيش فيها إرهابيون غير تائبون". وفي نفس اليوم نشر المعلق في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان، مقالًا شبه فيه العرب والإيرانيين بـ"الحشرات"، وقرر شرح المنطقة بناءً على مثال "حديقة الحيوانات".

وقال بيومي: "هذا الخطاب المتعصب ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين يركز اليوم على تقييد حريتهم بالتعبير". ويقول تيموثي برينان، مؤلف كتاب "أماكن الفكر" وهي سيرة عن حياة سعيد: "قراءة سعيد بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر مليئة بالكثير من الإحباط"، وأضاف: "الإحباط من أنه ليس موجودًا لكي يرد على الرقابة التي تطبع كل مظاهر الحياة اليومية في الولايات المتحدة". مضيفًا: "كان سعيد من الممكن أن يخترق ويجد مستمعين، في هذه اللحظة التي يرى كُثر حول العالم ما هي طبيعة المشروع الصهيوني ومن الناحية العملية".

موقف أخلاقي

ويعلق بيومي على ما سبق، بالقول: "أحد أسباب عودة الناس دائمًا إلى سعيد هو قدرته على التعبير عن موقف أخلاقي بإحساس تاريخي متطور. إذ وصف سعيد الشعب الفلسطيني بأنه ’ضحايا الضحايا’، موضحًا كيف أصبح الفلسطينيون جزءًا لا يتجزأ من التاريخ اليهودي في أوروبا، حتى لو كانت ’حياة الفلسطينيين وثقافتهم وسياساتهم تتمتع بديناميكيتها الخاصة، وفي النهاية أصالتها الخاصة’. كانت هذه الخطوة نموذجية في تفكيره، حيث كان الاتصال في نهاية المطاف أكثر أهمية من الانقسام. وكان لدى سعيد طريقة في إقامة التحالفات من خلال جاذبيته السياسية وسحره الحميم، وهي القوة التي اجتذبت الكثيرين، وصفت الروائية أهداف سويف نفسها ذات مرة بأنها: واحدة من أصدقاء إدوارد المقربين البالغ عددهم 3000 صديق".

وأضاف: "لقد استمع الناس إلى سعيد ليس فقط بسبب خبرته، ولكن أيضًا لأنه، على عكس نتنياهو، كان على استعداد للتحدث إلى الجميع، بما في ذلك اليهود الإسرائيليين. وكما أوضحت نجلاء سعيد، الكاتبة المسرحية والممثلة وابنة إدوارد سعيد: كان والدي يعترف دائمًا بالمعاناة اليهودية ويدافع عن طريقة [للفلسطينيين والإسرائيليين] للعيش معًا بحقوق متساوية مع استمراره في انتقاده لإسرائيل".

واستكمل بيومي الحديث في ذات النقطة، بالقول: "لكن سعيد فعل أكثر من مجرد الاعتراف بالمعاناة اليهودية. لقد فهم أيضًا الضرر الذي يمكن أن يحدثه سوء استخدامها. إذ يشرح سعيد في كتابه قضية فلسطين، الذي نُشر عام 1979: أنا... أفهم بعمق قدر استطاعتي الخوف الذي يشعر به معظم اليهود من أن أمن إسرائيل يشكل حماية حقيقية ضد محاولات الإبادة الجماعية المستقبلية للشعب اليهودي. لكن... هناك لا يمكن أن يكون ذلك وسيلة لعيش حياة مرضية يكون اهتمامها الرئيسي هو منع الماضي من التكرار. بالنسبة للصهيونية، أصبح الفلسطينيون الآن بمثابة تجربة سابقة تتجسد في شكل تهديد حاضر. والنتيجة هي أن مستقبل الفلسطينيين كشعب مرهون بهذا الخوف، وهو كارثة عليهم وعلى اليهود".

وأشار بيومي إلى أن "حضور سعيد المعاصر جدًا"، يعود إلى ربط إدوارد سعيد "الحركة الوطنية الفلسطينية بالنضالات الأخرى المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم. وكتب في كتابه قضية فلسطين: كل دولة أو حركة في المناطق المستعمرة سابقًا في أفريقيا وآسيا اليوم تتعاطف مع النضال الفلسطيني وتدعمه بالكامل وتفهمه. في كثير من الحالات، هناك تطابق لا لبس فيه بين تجارب الفلسطينيين العرب على أيدي الصهيونية وتجارب هؤلاء الأشخاص، أصحاب البشرة السوداء والبنية والصفراء، الذين وصفهم إمبرياليو القرن التاسع عشر بأنهم أقل شأنًا وأقل من البشر".

وعن استعادة واستحضار إدوارد سعيد، قال بيومي: "يواصل القراء الشباب بشكل خاص الانجذاب إلى هذه الرسالة العالمية المناهضة للعنصرية. إن تحليل سعيد للغرب، ولا سيما نهجه تجاه الاستشراق كممارسة للقوة والسيطرة، لا يزال حيًا في الكثير من المحتوى الذي أراه على تيك توك هذه الأيام".

ويقول جيري ليم: "المزيد والمزيد من الشباب يشككون في أمريكا والغرب وافتراضاتنا. تنتقد الأجيال الشابة تحيز وسائل الإعلام الغربية، مثل صحيفة نيويورك تايمز. هناك تعطش للروايات التي تأتي مباشرة من الفلسطينيين أنفسهم، مثل سعيد".

وأضاف ليم مازحًا إن سعيد "ربما كان يحظى بشعبية على تيك توك، فقط تخيل صفحة نصفها تحليل ونصف محتوى البيانو. أو ربما يتحدث أثناء العزف على البيانو. الناس سيتابعون ذلك".

ويعتقد تمثي برنن: أن سعيد "سيُدغدغه الاهتمام" الذي يتلقاه الآن على وسائل التواصل الاجتماعي وأن سعيد كان دائمًا مهتمًا بسرد القصص عبر الوسائط المتعددة، مستشهدًا بكتاب سعيد المصور بعنوان " بعد السماء الأخيرة" كمثال.

وعقب بيومي على ذلك، بالقول: "لكن ماذا لو كان سبب جاذبية سعيد الخالدة على ما يبدو لا علاقة له بمواهبه وشجاعته الأخلاقية بقدر ما يتعلق بالإنكار المستمر للسعي الفلسطيني إلى الحرية؟ ما كتبه سعيد قبل 35 عامًا يمكن أن يبدو وكأنه كتب بالأمس، مثل هذا المقتطف من رسالة مفتوحة إلى المثقفين اليهود الأمريكيين، والتي تم تأليفها في عام 1989: لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للمثقفين الأمريكيين تجاوز الأدلة الخام والعارية لمجرد أن أمن إسرائيل يتطلب ذلك".

واستمر في النقل عن رسالة سعيد: "لكنه يتم تجاوزه أو إخفاؤه مهما كانت قسوته طاغية، بغض النظر عن مدى وحشيته وغير الإنسانية، بغض النظر عن مدى إعلان إسرائيل بصوت عالٍ عما تفعله. قصف مستشفى؛ واستخدام النابالم ضد المدنيين؛ ومطالبة الرجال والفتيان الفلسطينيين بالزحف أو النباح أو الصراخ ’عرفات ابن عاهرة’؛ كسر أذرع وأرجل الأطفال. واحتجاز الأشخاص في معسكرات اعتقال صحراوية دون توفر مساحة كافية أو صرف صحي أو مياه أو تهمة قانونية؛ استخدام الغاز المسيل للدموع في المدارس: كل هذه أعمال مروعة، سواء كانت جزءًا من الحرب ضد «الإرهاب» أو مقتضيات الأمن. عدم الإشارة إليها، وعدم تذكرها، وعدم القول، انتظر لحظة: هل يمكن أن تكون مثل هذه الأفعال ضرورية من أجل الشعب اليهودي؟ لا يمكن تفسيره، ولكنه أيضًا متواطئ في هذه الأفعال. إن الصمت الذي فرضه المثقفون الذين يمتلكون، في حالات أخرى وبالنسبة لبلدان أخرى، قدرات نقدية دقيقة للغاية، أمر عجيب".

ويعلق بيومي على السطور السالفة، بالقول: "عند قراءة هذه السطور، قد تعتقد أن سعيد نبي. وإلا كيف يمكن لكلماته التي تعود إلى عقود من الزمن أن تبدو وكأنها ممزقة من عناوين الصحف هذا الصباح؟ في الحقيقة، لا يعني ذلك أن سعيد كان ذا بصيرة، بل أن تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم مستمر، وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائمًا، وأن العدالة للفلسطينيين ما زالت بعيدة المنال كما كانت دائمًا. إذا كان أي شيء قد تغير، فهو حجم العنف، ولكن ليس العنف نفسه".

يقول تلميد إدوارد سعيد: فلسطين ستنقذ روحك، لكنها ستكسر قلبك أيضًا

ويضيف: "قراءة سعيد تذكرنا بضرورة الوقوف ضد الظلم في كل مكان، واكتشاف موقف أخلاقي يترجم إلى عمل، وتبني الشك قبل الحزبية. ’لا تضامن أبدًا قبل النقد’، كما كان سعيد مولعًا بالقول، تمامًا كما تحدث كثيرًا عن فلسطين باعتبارها ’محكًا’ لحقوق الإنسان على مستوى العالم اليوم".

وختم بيومي بالقول: "إذا كانت الأجيال الجديدة تكتشف إدوارد سعيد، فإنها في هذه العملية تكتشف كيف يمكن لقضية فلسطين أن توجه مبادئها الأكبر. وهم يشهدون أيضًا ما لا يعقل. الموت على نطاق واسع من الجو، والتجويع كسلاح من أسلحة الحرب، والتواطؤ الغربي مع الإبادة الجماعية، وانتهاكات الشعب بما يتجاوز ما يمكن لأي شخص عاقل أن يتحمله. إنه كتاب كبير لاستيعابه، ويؤدي إلى الدرس الوحيد عن فلسطين الذي لا يمكن لأحد، ولا حتى إدوارد سعيد، أن يُعدك له حقًا: فلسطين ستنقذ روحك، لكنها ستكسر قلبك أيضًا".