في أوائل عام 2021 ، استشرف محرر موسوعة "ويكيبيديا" المستقبل ورأى ما بدا وكأنه سحابة قاتمة ومرعبة في الأفق، تمثلت في إطلاق نموذج "جي بي تي 3"، وهو أول النماذج المتطورة من شركة "أوبن إيه آي". هذا المحرر، الذي تحدث إلى نيويورك تايمز دون الإفصاح عن اسمه، هو محرر ويكيبيدي غزير الإنتاج، ينشط تحت اسم "Barkeep49"، وحين جرب نموذج "جي بي تي 3" (GPT-3) شعر أنها غير جديرة بالثقة، وأنه لا يمكنها تهديد عرش المحررين البشر على الموسوعة.
"أعتقد أننا بتنا على مقربة من التعامل مع نماذج آلية قادرة على كتابة مواد موسوعية عالية الجودة، وهذا ما سيحصل عاجلاً لا آجلاً"
هذا النموذج كان يخلط باستسهال بالغ بين الحقيقة والخيال، ويخترع أسماء ومراجع زائفة ويسبكها بقالب متماسك لغويًا. إلا أن النموذج رغم ذلك في أساس فكرته بدا واعدًا جدًا، وفي طريقه إلى المزيد من التطوّر وتجاوز المشاكل، وبدا صاحبنا الويكيبيدي على ثقة من أن المستقبل سيكون لها. أمام تلك الإرهاصات المبكرة، كتب هذا الشاب مقالًا بعنوان "موت ويكيبيديا" وهو مقال نشره تحت إشرافه على ويكيبيديا نفسها، وقال فيه: "أعتقد أننا بتنا على مقربة من التعامل مع نماذج آلية قادرة على كتابة مواد موسوعية عالية الجودة، وهذا ما سيحصل عاجلاً لا آجلاً". وقد تكهن هذا الرجل بأن نموذجًا محوسبًا يمكن مع مرور الوقت أن يحل محلّ المحررين البشر على الموسوعة، تمامًا كما حصل حين قتلت ويكيبيديا موسوعة "بريتانيكيا" العريقة بنسختها المطبوعة، منذ العام 2012.
طرحت نيويورك تايمز على هذا المحرر سؤالًا، حول مدى قلقه على مصير موسوعة ويكيبيديا، وأجاب على الفور بأن الإصدارات الأحدث من نماذج اللغة التوليدية، مثل "تشات جي بي تي" و"جي بي تي 4" جعلته أكثر اقتناعًا بأن التهديد بات وشيكًا، وأن الأمور قد تسير على ما هي عليه خلال السنوات الثلاثة المقبلة، ثم تبدأ الأمور بالانحدار السريع في السنة الرابعة أو الخامسة، حيث يمكن أن نشهد نهاية الجهد البشري المكثف على الموسوعة، لأن نماذج الذكاء الاصطناعي أقدر على القيام به.
احتفلت موسوعة ويكيبيديا بعيدها الثاني والعشرين في كانون الثاني/يناير الماضي، وهي ما تزال تمثل من نواح كثيرة، صورة حالة عن تلك الأيام المثالية الأولى للإنترنت، وأوج حركة الإنترنت المفتوح، حيث أمكن لكل شخص الكتابة والتحرير والمساهمة في الموسوعة. كان هدف ويكيبيديا، بحسب المؤسس المشارك جيمي ويلز في عام 2004، هو خلق "عالم يتم فيه منح كل شخص على هذا الكوكب حرية الوصول إلى مجموع المعرفة البشرية". في العام التالي ، صرح ويلز أيضًا: "نحن نساعد على بقاء الإنترنت مكانًا غير وخيم".
أما ويكيبيديا اليوم، فتضم نسخًا من 334 لغة، وبمجموع مقالات يتجاوز 61 مليون مقالة. ويحافظ موقع الشبكة على مكانته بين أكثر 10 مواقع ويب زيارة في العالم، ومع ذلك ما تزال تنشط كمؤسسة غير ربحية، وعلى نحو نادر لموقع ومؤسسة بهذا الحجم والتأثير في العالم اليوم. لا تعمد ويكيبيديا إلى الإعلانات كمصدر للدخل، إلا عندما تسعى للحصول على تبرعات، أما المساهمون فيها فلا يحصلون على أي أجور، فهم متطوعون، رغم أن كثيرًا منهم يعملون بوتيرة جنونية، يجعل معدل التعديلات على الموقع حوالي 345 تعديلًا في الدقيقة. وبعيدًا عن حتميات منطق الرأسمالية في القطاع التقني، فإن نجاح ويكيبيديا المتواصل يمثّل لغزًا يحتاج إلى التحليل والفهم، ويمثل دومًا سببًا للحيرة.
تتجاوز ويكيبيديا كونها موسوعة، أو على الأقل هي ليست مجرد موسوعة. فعلى مدار العقد الماضي، أصبحت ويكيبيديا نوعًا من المعاوضة الواقعية التي تجمع العالم الرقمي بأكمله معًا وتشبك بينه. فالإجابات التي نحصل عليها من عمليات البحث على جوجل، أو غيره من محركات البحث، عن عمر الرئيس الفلاني، أو عن تعريف الغواصة، أو تاريخ معركة تاريخية ما، هي إجابات مستقاة غالبًا ولو بشكل جزئي من بيانات ويكيبيديا، التي تم استيعابها في قواعد المعلومات الخاصة بهذه المحركات. كما أن منصات أخرى، مثل يوتيوب، تعتمد اليوم وبشكل معتبر على موسوعة ويكيبيديا، لمواجعة المعلومات المضللة والتحقق منها.
وحتى نماذج الذكاء الاصطناعي اليوم، تعتمد هي الأخرى على ما توفّره الموسوعة، أي أن المعارف التي تم تجميعها وتحريرها وتنقحيها على مدى سنوات طويلة من العمل البشري الشاق، والتطوعي، باتت اليوم مادة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، التي تملكها شركات ربحية، مثل "أوبن إيه آي"، علمًا أنها بدأت أولًا كشركة غير ربحية.
في مؤتمر عبر الإنترنت في آذار/مارس الماضي، حول تهديدات الذكاء الاصطناعي على موسوعة ويكيبيديا، وأوجه الفائدة المحتملة منه، بدا بعض المشاركين واثقين من أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيساعد في تطوير الأدوات التي من شأنها أن تعزز نموّ ويكيبيديا باللغات المختلفة، وترسّخ مكانتها كمرجع معرفي عام عبر الشبكة. أما آخرون فشعروا بالقلق بشأن ما إذا كان المستخدمون سيختصرون على أنفسهم المسافة، ويلجأون فورًا إلى نموذج "شات جي بي تي"، بدل التوقف عند ويكيبيديا. أما الشاغل الرئيسي بين المحررين المشاركين في المؤتمر، فكان هو كيف يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم ودورهم أمام مثل هذا الدخيل التقني المزعزع، ولاسيما أن البعض قلق أيضًا بشأن ما إذا كان العالم الرقمي قد وصل إلى نقطة باتت فيه منظمتهم - التي تتخذ موقفًا معلنًا من الدفاع عن الدقة والمصداقية - مهددة بنوع من الذكاء الاصطناعي غير المأمون من الناحية العملية على مستوى المحتوى الناجم عنه، لكنّه في الوقت ذاته يصعب احتواؤه وضبطه.
كان أحد النقاط موضع الاتفاق بين المشاركين في ذلك المؤتمر الويكيبيدي هو الرغبة المستمرة في عالم يتم فيه إنشاء المعرفة من قبل البشر. ولكن السؤال الذي بدا وكأنه دهمهم فجأة: هل فات الأوان بالفعل لذلك، وهل يمكن للموسوعة أن تقاوم ذلك الإغراء العجيب لمتعة التواصل اللغوي المباشر مع نموذج ذكاء اصطناعي مثل "تشات جي بي تي"، وقدرته على أن يزيح ويكيبيديا عن عرشها؟
التوجه داخل الموسوعة يميل إلى تعزيز التعاون مع بين منظمة ويكيبيديا والشركات الكبرى المطورة لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية من أجل تطوير أخلاقيات أساسية ضابطة لاستخدام نماذجها في توليد المقالات وتحريرها على الموسوعة
بحسب نيويورك تايمز، فإن التوجه داخل الموسوعة يميل إلى تعزيز التعاون مع بين منظمة ويكيبيديا والشركات الكبرى المطورة لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، مثل أوبن إيه آي، وجوجل، وميتا، وغيرها، من أجل تطوير أخلاقيات أساسية ضابطة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في توليد المقالات وتحريرها على الموسوعة، والتمهيد بشكل معقول لعصر يتم فيه الاستغناء بشكل كامل عن المحررين البشر على الموسوعة، على الأقل باللغة الإنجليزية حاليًا.