17-يناير-2019

عتاب حريب/ سوريا

نهضت كعادتها، تستأنف الصبح في سكناتها، تورق على الأمل الفائض أن يعجل خواءها ويروي مسام جسدها الأهيف، أن يداعب وجهها الفياض بنسمات حبلى من مقتطفات الربيع. الطقس شاعري، يحتشم على وجهها البيضوي. يلاعبه بقطع من الهبات المتسربلة من نافذة الغرفة الرومانسية عابثًا باحتوائها. يشعل فيها أنوثة متلهفة لشوق استثنائي. تتأهب مها ككل يوم، تغتسل فائضة بأحلامها، تعدد أيام شبابها وتسترخي على الدلال الفائض حذوها.

تفكر كيف سترتدي ثيابها وأي الألوان ستختار وأين ستقضي يوم عيد ميلادها، وكيف ستبدو في عيون الآخرين، وأي إطراء ستسمعه اليوم. تعرف بأن الكل لا يستطيع أن ينكر ما تتمتع به من دلال وجمال. عيناها الخضراوان اللتان تشعان ذكاء وتحمسًا، قوامها الممشوق، أنوثتها الصارخة وفيض دلالها الذي يستفز أعتى الرجال. واليوم هي على موعد مع الاحتفال السنوي لشبابها لتختال أمام أصدقائها وتقول من تكون.

هاهي تختال الآن في الغرفة. مها كعادتها تدق بالكعب العالي أرضية الغرفة، تعاند شموخها الأنثوي، تسترخي بتعب على الفستان المغازل لكتفيها، تصنف شعرها خصلة خصلة و تضع طلاء الأظافر. على مضي ساعتين تخفق بأحلامها الوردية ، تتمدد في خفاء الساعات، تنتظر أن ترى خلاصة جمالها ورونق دلالها. هي الشغوفة بحركة الوقع الخفي على مسام أنوثتها لم تكن لتتأنق أكثر فأكثر وخاصة في هذا اليوم المشهود، يوم عيد ميلادها.

والآن راحت كعادتها لتقف أمام المرآة  كي تسوي شعرها وتضيف اللمسة الأخيرة لهذا الجمال كما تفعل نجمات السينما. ربما تسوي بعض الخصلات هنا  هناك، أو تستنشق قوامها وسط ذلك الفستان أو ترى ساقيها ومشيتها، أو تمرر كحلًا فوق عينيها، ثم تمرر بين الأخضر الذي يعكس حدقتيها أو الأسود الذي يزيد حدة نظرتها وغنج جمالها الفياض. ولكن وما إن وقفت أمام المرأة حتى لم تعد ترى شيئًا يعكسها. ضباب يكتسي المرأة وكأنها مكسوة برماد كثيف أو ضباب. لم تر مها انعكاس لوجهها، لقوامها، أو شكلها، لا شيء كان ينعكس على المرأة. ارتجفت مها، أين وجهها؟ أين جمالها؟ ما المشكلة؟ لم لا ترى انعكاسا لذاتها، أين هي؟ بدأت مها تتفحص يديها وتتأمل أرجاء الغرفة، هل هناك خطب بحاسة نظرها؟ ألا تستطيع أن تدرك الأشياء بحاستها، لم تفهم ما يحصل البتة، إنها ترى كل شيء على عادته، كتبها، حقيبة يدها، الشباك المحاذي، باب غرفتها، الستار، الأرضية المستسلمة لكعب حذائها، شعرها المنسدل على كتفيها، ومن ثم عادت إلى المرآة لعلها ترى نفسها الآن، قد يكون هناك مجرد ارتباك لا أكثر، وعادت إلى عهدتها، تقف بكل اعتزاز، ولكن شيئا لم يتغير، إنها نفس الحالة، كارثة لا محالة.

ارتجفت مها وتساءلت في نفسها: "ما الذي يحدث يا ترى؟". وإذ انبعث فجأة صوت مجهول "ما بالك أيتها الحسناء؟ أتعجبين من وجودي؟". ارتعدت فرائص مها. ما هذا الصوت المجهول الذي يخيفها ويبعث فيها اكتظاظا بالرعب ووجمت.عاد الصوت فجأة "لا تعجبي بعد اليوم لن تري صورتك في المرأة لساعات طوال". أرادت مها أن ترد ولكن الوجوم طوقها وأفرط في ارتعادها، ثم عاد الصوت:"لقد أتيت من بعيد المدى، أنا من سترين من اليوم فصاعدًا في المرآة، كلما اقتربت منك أكثر ستتمكنين من رؤيتي بوضوح أكبر، سأكون معك دائمًا".

وصاحت مها: "ومن أنت؟"، وجاء الصوت من جديد "أنا جئت من عالم بعيد كي أعلمك بأنك ستحتفلين بعيد ميلادك الأخير وأنا أهنئك بذلك".

-ولكن من أنت؟ وكيف أتيت؟

-أنا أتيت في مهمة وسأرافقك على مدى تسعة أشهر، تكونين فيها في تصالح مع ذاتك، تقيمين نفسك وتحصين ما فعلت وتتأهبين للمرور إلى مرحلة أخرى ولكنك لن تري نفسك أبدًا، سترينني أنا فقط. قد تتفرسين ملامحي وعندما يحين الوقت المناسب سأخذك إلى مكان بعيد.

-أنا لا افهم ما تقول ولا أدرك ما تقصد. أنا لا أعرفك. أنت تخيفني.

-أنا أتربص مع المرء في كل حين فلا تخشيني، سأكون رفيقك ولن أؤذيك.

-أنا خائفة ماذا تريد مني؟

-أنا لا أريد شيئًا.

-ولكنك قلت بأنك ستأخذني إلى مكان ما ولكن لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أرافقك، أنا لا أعرفك.

-أنا لن أؤذيك. طيلة هذا الوقت سأكون أنيسك وستتعرفين علي رويدًا رويدًا، وإذا ما اصطحبتك يومًا  إلى مكان ما فاعلمي بأنك ستنتقلين إلى عالم أخر للانطلاق في تجربة جديدة.

-أنا أخشاك

-لا تخشيني، أنا صوتك الذي ستسمعين والوجه الذي ستبصرين. طيلة هذه المدة ستتعودين علي وسأكون إلى جانبك حتى تنتهي هذه الفترة. تكونين وقتها على أتم الاستعداد للمرور إلى مرحلة أخرى، حينها ستكونين صافية الذهن والشعور.

وجمت مها للحظة ولم تفهم بعد ما يحدث، وما الذي يحصل تحديدًا، أرادت أن تفصح أكثر، أن تتماثل للهدوء، مازال هناك أسئلة أخرى بجوفها، ولكن استراقها صوت أمها من وراء الباب وهي تقول: "تبارك الله على بنتي، كل يوم تزيد تكبر وتحلى، كل عام وأنت بخير حبيبتي. تأملي نفسك في المرأة لتري كم أنت جميلة"، هاهي مها تقترب هي وأمها من المرآة والوجوم يخيم عليها، مشدوهة، تفاجأ لحين بظلها الموسوم فاضحًا حسنها، إنها تبدو أجمل مما كانت عليه أبدًا، وفي ركن من المرآة يلوح ضباب أبيض يخفي حياءه في صمت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمام طعنات كل هذه السكاكين

غرقٌ في الذّاكرة