14-أكتوبر-2022
رجل في نابلس بين المحلات المغلقة بسبب الإضراب العام

رجل في نابلس بين المحلات المغلقة بسبب الإضراب العام

1

تُورد مجلة الدراسات الفلسطينية في عدد قديم منها منشور عام 1990 مادة تحت عنوان: "أساطير في انتفاضة نابلس"، تتحدّث عن مجموعتي "النسر الأحمر" و"الفهد الأسود" اللتين اعتبرتا أسطورتين من أساطير نابلس إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فقد سيطرتا على البلدة القديمة، وشكلتا مصدر رعب للاحتلال وعملائه وجواسيسه، وكانتا مسؤولتين عن تصفية العملاء آنذاك.

نابلس لم تتوقّف يومًا عن توليد أساطيرها، وكان لها في كلّ مرة طرقها الخاصة، وقد كان الثاني من أيلول/سبتمبر من العام الحالي شاهدًا على ولادة أسطورة جديدة من أساطير نابلس

تُورد المادة تقول: "ومن لا يسكن نابلس ويسمع عنها ينتابه إحساس بالغموض والإثارة إنْ فكّر في الذهاب إليها ودخول بلدتها القديمة التي قيل إنها أرعَبت جنود الاحتلال، وباتت كابوسهم الذي يتردد في منامهم، وحتى في يقظتهم. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فالبلدة القديمة هي حارة الياسمينة، وتصفية العملاء، والحجر الوحيد الذي قتل جنديًا".

ونابلس لم تتوقّف يومًا عن توليد أساطيرها، وكان لها في كلّ مرة طرقها الخاصة، وقد كان الثاني من أيلول/سبتمبر من العام الحالي شاهدًا على ولادة أسطورة جديدة من أساطير نابلس، ففي هذا التاريخ، ووفاءً لدماء الشهداء جميل العموري وأدهم مبروكة وأشرف المبسلط ومحمد الدخيل ومحمد العزيزي وعبود صبح وإبراهيم النابلسي وغيرهم، وسيرًا على نهجهم، عند شارع حطين وسط مدينة نابلس أعلنت مجموعة "عرين الأسود" عن نفسها، وظهر مقاوموها بكامل عدتهم وعتادهم، ليعلنوا أنّهم يتخذوا من البلدة القديمة عرينًا لهم، وأنّ العرين هي ظاهرة مقاومة مستمرة، عابرة لحدود الأحزاب والفصائل، تتوحّد فيها جهود المقاتلين، وتتجه فيها بناقدهم نحو عدو واحد هو الاحتلال.

2

يَرد في مقابلة صحفية مترجمة نقلتها "شبكة قدس الإخبارية" عن إحدى القنوات الإسرائيلية حول مجموعة "عرين الأسود": "عرين الأسود هي مجموعة تمّ إقامتها في نابلس، قبل عدة أشهر فقط، وليس منذ مدة طويلة، ما يميزها هو أنهم أخذوا نموذج جنين، هذا النموذج يقول بأنه لم يعد هناك شهداء أقصى، جهاد إسلامي وحماس، جميعهم معًا، في جنين، هنالك ما يُسمى أنا ابن المخيم، لا يهم من أين أنا، ولمن أنتمي، ولمن أقوم بالانتخاب، في نابلس قاموا بفعل نفس الشيء، هنالك الكثير من المسلحين يأتون من مناطق مختلفة ويتّحدون، ويقومون بتنفيذ عمليات فدائية مثل إطلاق النار، ولا يهم الهوية.. فهذا ما يميزهم فهم فهموا أهمية معركة الوعي".

المقابلة تنضوي على اعتراف إسرائيلي بميزات مجموعة العرين، وعلى اختلافها وتفردها عن غيرها من التجارب النضالية الفلسطينية، فالمجموعة استلهمت النموذج النضالي الذي وُجد في مخيم جنين، وتجاوز فيه المقاتلين عتبة الحزبيات والفصائليات واجتمعوا تحت راية واحدة هي مقاومة الاحتلال.

ومعركة الوعي التي فهمها وأدركها مقاتلي المجموعة -وذكرتها المقابلة السابقة- لا تقتصر فقط على ظاهرة القتال تحت راية موحدة تحمل شعارًا واحدًا (بندقيتين إم 16 تحميان المسجد الأقصى)، بل تجيء كذلك، في إدراكهم لأهمية الشكل التنظيمي في الحضور الإعلامي، فعناية المجموعة بدقائق الشكل التنظيمي يظهر في حرص مقاتليها على تصوير العمليات التي يقومون بتنفيذها وبثّها مرفقة بشعارهم، ويتبدى كذلك في حرصهم على الظهور إعلاميًا بلباس موحد، وفي اهتمامهم بعناصر الرمزية في هذا الظهور، فيُلاحظ أنّ هناك قماشة حمراء تَأتي دائمًا تطوق مقدمة البنادق التي يحملونها، في إعلان واضح عن قيمة الرصاص التي في حوزتهم، وفي إشارة صريحة إلى ابتعادهم عن الأنشطة الاستعراضية التي تضمن إطلاق النار في الهواء بشكل عبثي، وكأنّ لسان حالهم يقول: محالٌ أن تذهب رصاصة نملكها هدرًا، فكلّ واحدة منها مهيأة لتستقرّ في قلب جندي من جنود الاحتلال أو مستوطن من مستوطنيه.

3

رغمَ حداثة ولادتها التي لم تتجاوز بضعة أشهر، تمكنت مجموعة "عرين الأِسود" من تحقيق التفاف جماهيري وشعبي واضح حولها، وهو ما يَظهر في شكل التفاعل الشعبي من مختلف المدن الفلسطينية، مع كلّ بيان ودعوة يَصدر عنها (آخرها الاستجابة الشعبية للإضراب التي دعت إليه العرين في تاريخ 12 من الشهر الجاري دعمًا وإسنادًا لمخيم شعفاط المحاصر من قبل جنود الاحتلال منذ عدة أيام)، فهذه الاستجابة والتفاعل الشعبي مع بيانات ودعوات العرين، وهذا الالتفاف الجماهيري والشعبي حولها، يأتي ليعكس تعطّش الشارع الفلسطيني لوجود حالة كفاحية مثلها، تُعيد للمقاومة الفلسطينية زخمها في الضفة الغربية، ويستعيد بها الفلسطينيون إحساسهم بوجود سند وطني موحّد، يَبتعد عن حسابات الأحزاب والفصائل الضيقة، يقف في ظهورهم، ويتكفّل بالردّ على جرائم الاحتلال ومستوطنيه، فيذيقهم من كأس المرار الذي يذوقونه كلّ يوم.

لم تفارق الطائرات  المسيرة الإسرائيلية سماء مدينة نابلس، والطائرات المسيرة تلك المعروفة بالـ"زنانة" لها صوت ضوضائي ومزعج

 

4

منذ أسابيع عديدة، ومع تصاعد أعمال مقاومة مقاتلي العرين ضد الاحتلال وقطعان مستوطنيه، لم تفارق الطائرات  المسيرة الإسرائيلية سماء مدينة نابلس، والطائرات المسيرة تلك المعروفة بالـ"زنانة" لها صوت ضوضائي ومزعج، تشبه ما كتبه محمود درويش في قصيدته "البعوضة" من أنّها "حشرة تحبُّ دمك وتَشُمُّه عن بُعْد عشرين ميلًا"، الزنانة الإسرائيلية هي حشرة من نوع آخر، تُكثّف حضورها في سماء المدينة ليلًا ونهارًا، وكأنّها تحبّ دماء المقاتلين في العرين، وتدور الأرجاء تشمها وتبحث عنها، نسمعها نحنُ أهلُ المدينة بامتعاض دائم، نلعنها مرة لأنها تأكل رؤوسنا، وتتوالى لعناتنا عليها تباعًا عندما نتذكّر أهدافها ومآربها، ونُدرك بأنها في طيرانها المستمرّ فوق رؤوسنا، تبحث عن دماء مجموعة مقاتلي العرين، الذين أعادوا للمدينة نارها وثوريتها، ورأينا فيهم وجه نابلس (جبل النار) كما نُحبّها ونريدها ونتمناها.