17-أغسطس-2022
باسل الاعرج

غرافتي للشهيد باسل الأعرج

في السادس من آذار/مارس عام 2017، اختار باسل الاشتباك مع القوّة "الإسرائيلية" الخاصّة التي توجهت لاغتياله. القوّة هذه التي طوت أفراد الأمن الفلسطيني داخل مقراتهم خلال اقتحامها لمخيم قدورة قرب رام الله، ليبقى باسل وحده في مواجهة جنود خاضوا تدريبات مكثفة لقتلنا، وقتل كل نَفَس مُقاوم. 

تغيّرت قواعد الاشتباك منذ ذلك التاريخ، والاعتقاد السائد بأن الكفاح المسلح قد انتهى كان خاطئًا. 

اتخذ النضال الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم أشكالًا عديدة اختلف بحسب معطيات المرحلة السياسية والاجتماعية والإقليمية، ولنا أن نقول إن تجربة ما بعد عام 1993 تختلف اختلافًا كليًا عمّا سبقها

اتخذ النضال الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم أشكالًا عديدة اختلف بحسب معطيات المرحلة السياسية والاجتماعية والإقليمية، ولنا أن نقول إن تجربة ما بعد عام 1993 تختلف اختلافًا كليًا عمّا سبقها.

شهدت الانتفاضة الثانية تحولًا جذريًا فيما يتعلق بالعمل المقاوم مقارنةً بما كان عليه خلال الأولى، ويُعزى هذا التحول بشكل رئيس إلى اختلاف البُنية السياسية المتواجدة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فبينما كانت القيادات الفلسطينية في الانتفاضة الأولى تمارس دورها من الخارج، خليل الوزير (أبو جهاد) مثالًا، انتقلت هذه القيادات خلال الانتفاضة الثانية إلى العمل من أرض الميدان. 

مع إعلان رئيس السلطة الفلسطينية عام 2005 "وقف أعمال العنف" بالاشتراك مع "آرييل شارون" رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، صار للعمل الفلسطيني المقاوم عدوين، الاحتلال والسلطة. 

خلال السنوات اللاحقة لهذا الإعلان، عملت دولة الاحتلال على تقوية الأجهزة الأمنية الفلسطينية حتى تعمل لصالحها، فطالبت المقاومين بإلقاء السلاح والانخراط في قوات الأمن الدايتونية، ومن لم يطع الأوامر يتم اعتقاله وتعذيبه. 

بحلول العام 2014، كان التنسيق الأمني قد وصل ذروته في تسليم المطلوبين لقوات الاحتلال، أو  اعتقال النشطاء وتعذيبهم في سجن أريحا، ومع تكريس الانفصال بين غزّة والضفة الغربية وتغوّل الأمن الفلسطيني على أبناء شعبه لصالح الاحتلال، بدأ العمل النضالي الفردي بالظهور، المقاومة العابرة للتنظيمات والحركات الوطنية الفلسطينية. 

يأس تنظيمي وإبداع فردي

بالرغم من نقص الموارد المتاحة، وتواضع التدريب العسكري، حقق المقاومون ما عجزت عنه جيوش كاملة، فكان أن استنفر جيش الاحتلال مطاردًا لأحمد جرار وأشرف نعالوة على سبيل المثال لا الحصر، بل وتم استنزاف وحدات عسكرية بأكملها للوصول إلى أماكن اختباء المقاومين، وليس سرًا أنه معظم عمليات هذا الجيش المدرّب أفضل تدريب والمزوّد بأحدث تكنولوجيا عسكرية استعمارية لا تنجح دون الاستعانة بالجواسيس والعملاء وموظفو التنسيق الأمني في أجهزة السلطة. 

لقد شكّل الفراغ التنظيمي في مدن الضفة الغربية والانضواء تحت مظلة السلطة الفلسطينية لمنافع شخصية، بالإضافة إلى مطاردة التنظيمات الإسلامية ومحاولات منعها، عوامل مهمة لظهور العمل المقاوم الفردي، كما أنه يصبح أقل عرضة للفشل وأكثر مفاجأة ولا يمكن توقعه أو السيطرة عليه.

مدّعو الحلول السلمية يجادلون بأن هذه العمليات لا جدوى منها، ولا تضيف إلى القضية شيئًا، لكنها على العكس تمامًا، فهي أولًا تُذكر المحُتل أنه محتل، وأن هذه الأرض ليست أرضه، ولا حق له فيها، وثانيًا تنشرُ الوعي المطلوب للأجيال القادمة بأن المقاومة هي الحل الوحيد لاستعادة الأرض، فلا يوجد أرض محتلة في التاريخ تم تحريرها على طاولة مستديرة في غرف مكيّفة. 

ولعل أهم ما تضيفه هذه العمليات الفردية، أنها تعيد هيكلة علاقة الشعب بالشعب، فيصيرُ المقاومُ والمطارَدُ والمُطاردَ لقوات الاحتلال ابنًا لكل بيت في المدينة، وتصيرُ جنازات الشهداء عابرة للمدن الفلسطينية والعربية. 

"قاوم تكن.. وصوّب تجد"

المعذرة من محمود درويش الذي صادفت ذكرى وفاته العاشر من آب/أغسطس، فلم تعد الكينونة بالكتابة عن المحتل والقراءة عنه كافية لترسيخ وجودنا، فلا بد من أن تترافق بفعلٍ على الأرض، وإذا كان شعار تحرير الأرض بالشعر والأدب والكتابة صالحًا في زمنٍ ما، فقد انتهى، ولم يعد يُجدِ أمام ظلم عالمي يتعاظم يومًا بعد يوم. 

كما وجد باسل الأعرج أجوبته أثناء اشتباكه، فإن إبراهيم النابلسي وأشرف المبسلط وإسلام صبوح وأدهم مبروكة ومحمد الدخيل وجميل العموري وغيرهم.. وجدوا أنفسهم في توجيه بنادقهم نحو عساكر الاحتلال

وكما وجد الشهيد باسل الأعرج أجوبته أثناء اشتباكه، فإن إبراهيم النابلسي وأشرف المبسلط وإسلام صبوح وأدهم مبروكة ومحمد الدخيل وجميل العموري وغيرهم.. وجدوا أنفسهم في توجيه بنادقهم نحو عساكر الاحتلال. 

يغادرُنا المقاومون واحدًا تلو الآخر تاركين لنا وصايا قصيرة تختزل كل ما حلّ بفلسطين منذ النكبة، آخرها كانت وصية النابلسي "حافظوا عَ الوطن". 

لا يملك جيش الاحتلال ووحداته الخاصّة شجاعة مقاوم محاصر واحد. مقاومٌ لا يستسلم، يقاتل حتى آخر رصاصة، يحقق ما تعجز عنه دول كبيرة، وحين يستشهد، يصاب الكيان بالرعب حين يشاهد التفاف الشعب حوله. 

نماذج متعددة والغاية واحدة

من الأعرج وحتى النابلسي ولمن سيكونون بعدهم، تختفي رايات التنظيمات المختلفة أمام حضور العَلم الفلسطيني، وهو المطلب الرئيسي لاستمرارية هذا النضال الفردي المسلح، كما أنه من الواجب على مؤيدي المقاومة كطريق وحيد للتحرير توحيد الجبهات بغض النظر عن تفاصيل الانتماءات التنظيمية، وإن كان هناك تباين في المواقف أو التوجهات أو الممارسات، فالمطلوب منّا اليوم العمل على إزالة هذه العقبات واستثمار حالة الاحتضان الشعبي للمقاومة ودعمها والبناء عليها لتصبح عامّة شاملة كافة المدن والمواقع.

خاتمة

يعتقد البعض أن الكفاح المسلح الفلسطيني انتهى مع خروج الفدائيين من بيروت، وأن كل ما تلا ذلك هو مناوشات لا تفيد بشيء، لكن واقعنا اليوم يقول إن هذا العمل المسلح الفردي يؤسس لحالة جديدة وفريدة في مسيرة النضال الفلسطيني، وما يحتاجه أكثر من أي وقتٍ مضى هو تذويب المصالح التنظيمية والسلطوية لصالح ديمومة المقاومة الشعبية التي ستأتي بنتائج أفضل بكثير من كل مفاوضات المكاتب والفنادق والوفود الرسمية.