13-أكتوبر-2022
والد أحد المعتقلين الذين ظهروا في صور قيصر

إسماعيل الهاني من إدلب، والد المعتقل محمد الذي ظهرت صورته ضمن صور قيصر

خلال عقد القهر المريع، انشغل السوريون الذين أخذتهم رياح الحرية بتوثيق جوانب من حياتهم وحياة بلدهم، وأكثر المواضيع التي استرعت اهتمامهم، مواطنين وباحثين، هو السِّجن.

بلدٌ يحترق، هويةٌ تضيع، شعبٌ يتمزّق بين الرحيل إلى جهات الهوان والبقاء محاصرًا بالخوف والجوع. مع ذلك كله راح السوريون يبحثون في أهوال السجون، أكثر من بحثهم في اكتشاف البلاد، جغرافيًّا وتاريخيًّا، مستنطقين المعتقلين والسجانين، بل حتى الأبنية، ليقفوا على ما جرى هناك، ولا أظن أن ذلك يعني شيئًا أكثر من أن هذه الحالة السجنيّة أهمّ من صنع حاضر هذا البلد.

هل السجن كل سوريا؟ وهل منحه هذا الجهد التوثيقيّ تأكيد، بشكل غير مباشر، أن السجن كلُّ ما لدينا؟ أو أن بلادنا هي السجن وحسب، وها نحن إذ نحاول لململة تفاصيله إنما نُجمل كل حكايتنا؟

السجن قبل البيت. قبل القرية والبلدة. قبل حكايات الجدة وذكريات الطفولة.

هو السردية الكبرى. هو ما فتك بنا. ما سرق أحلامنا. هو كل شيء.

السجن أولًا وأخيرًا.

هل السجن كل سوريا؟ وهل منحه هذا الجهد التوثيقيّ تأكيد، بشكل غير مباشر، أن السجن كلُّ ما لدينا؟ أو أن بلادنا هي السجن وحسب، وها نحن إذ نحاول لململة تفاصيله إنما نُجمل كل حكايتنا؟

ربما ما يدفعهم نحو ذلك هو شعورهم بالذنب تجاه الأرقام المهولة من المعتقلين الذين دأب النظام على سلب حيواتهم منهم، وجعلهم عبرةً لمن تسوّل لهم أنفسهم بالتفكير بالخروج على طاعته.

أيًّا تكن الأسباب، فالحكاية، كل الحكاية، بدأت من هنا: الغطرسة والظلم والإهانة مقابل الرفض والحرية والعدالة. ناهيك أن هذه المؤسسة القمعية كانت الدافع المباشر لإشعال الثورة السورية. اعتقل الأمن أطفالًا وعذّبهم لأنهم كتبوا شعارات معارضة للنظام، فقام أهلهم وجيرانهم بالتجمع للمطالبة بإطلاق سراحهم، ثم قامت بعد ذلك القيامة.

صمد النظام السوري لأنه يمتلك فجور زجِّ الناس في الأقبية إلى آخر أيامهم. ولأنه لا يتورع عن إهلاك السجناء بالإعدامات الميدانية السرية كي يُفسِح مجالًا للسجناء الجدد. ثم إن موجات السياسة في سوريا خلال نصف القرن الأخير لم يكن إلا موجات تتعلق بالسجن، لأجل هذا يروي السجنُ قصةَ سوريا بحذافيرها، ويمثّل السجناءُ في حضورهم بيننا أكبر معنيَين يشكّلان معًا اختصارًا لكل ما عرفه هذا البلد خلال نصف قرن من حكم أب وابنه: الألم والعار!

السِّجن! هو ذلك المكان الذي لا نراه، مع ذلك نشعر أننا كنا فيه، ونعيش حياتنا ونحن لا نريد أن نكون فيه. وهو المكان الذي صنع مآسي ملايين العائلات، مُلغيًا خيارات الأبرياء، فارضًا قوانين المُعذّبِين. السِّجن هو جحيم الدولة المتسلطة التي ولدت به فقط، مستغنيةً عن الجنة.

ما يستحق انتباه المتخصصين في النفس وعلومها أنّ السجناء السوريين قابلون لأن يتكلموا، والمعروف عن الضحايا أنهم يفضّلون الصمت. ربما قلبت الثورة الآليات النفسية الراسخة، أو ربما جاء ذلك من شعورهم بالإنصاف أمام الثورة الشعبية الكبرى، أو من إدراكهم العميق بأن الشيء الوحيد الذي ينمو ويزدهر هو السجن فقط، حتى أصبح بحجم الخريطة الوطنية، ولأجل هذا تحوّل صمت الضحايا إلى محيط من الكلام، لكنه كلام من دم وأشلاء لحم ودمع وعرق وأنفاس محروقة. ولن نكون أحرارًا كما ينبغي لنا أن نكون ما لم تصبح شهادات المعتقلين تعريفًا شاملًا لكل ما نريده من العدالة.