22-يونيو-2023
الشرطة الألمانية تحاصر المتشاجرين (radiovest)

الشرطة الألمانية تحاصر المتشاجرين (Radio Vest)

قبل سنوات، انتشر فيديو شجار عنيف بين لاجئين في اليونان، ظهر فيه من بين الغبار والركض والضوضاء رجل يوناني يصرخ بغضب: "إنه اليونان وليس الشرق الأوسط"!

بدا الرجل الصارخ في تلك الموقعة نموذجًا مثاليًّا لمن تتحوّل لديه الصور النمطية إلى قناعات، فالعبارة التي نطقها بلغته الأم، وظهرت مُترجمةً إلى العربية، تُخبرنا أنه من أولئك الذين يعتقدون بأن ما يسمونه بالشرق الأوسط تدمَّر بسبب أشياء تشبه هذه الشجارات. وهذا يعني، بالقياس، أنّ التحلي بقليل من الصبر والتروي سينهي المحن جميعها.

المشاجرات التي شهدتها مدينتان ألمانيتان مؤخرًا، بدتا بالشكل ذاته للألمان الذين كانوا على احتكاك بالواقعة، بحكم السكن أو عبر الإعلام، وسوى ما يمكن لمثل هذه الأحداث من أن يصب في رصيد الأحزاب اليمينية، فإن الأمر يستحق الوقوف عنده لقراءة ما وصل إليه الحال بين السوريين واللبنانيين من عنف وتوتر، بعد سلسلة طويلة من الممارسات والخطابات العنصرية، التي وصلت ذروتها مع قصة الشوكولامو، التي فجّرت المشهد.

أصبح كل ما يتعلّق بالرد على نضال الأحمدية، وقصة "الشومولامو"، أمرًا ممجوجًا وثقيل الظلّ، فمن يرون بعين العقل لا يأبهون أصلًا لرأي مريض بحقّ شعب كامل، ويعرفون جيدًا أن الرد الأفضل على أمثال هؤلاء هو التجاهل

هنا، ومثلما يحدث في القصص المشابهة، بدأت الأمور من شرارة صغيرة، تطورت لتأخذ شكلًا عشائريًّا بشكل سريع، بعدما أطلقت العائلة السورية التي تعرضت للاعتداء مناشدةً عشائرية، فجاءت التلبية سريعةً على شكل عشرات من الشبان نزلوا إلى الشوارع واصطدموا مع أشخاص لبنانيين، ومن ثم مع الشرطة الألمانية التي تعاملت مع الوضع بشكل حاسم. رافق ذلك كله حرب إلكترونية سورية-لبنانية شعواء، كانت ساحتها هي صفحات تيك توك بالذات، ولهذا المنبر دلالة خاصة جدًّا.

الآن بعد انتهاء العنف ذي الطابع العشائري، وبعد سلسلة من التصريحات السياسية الألمانية الحادة، وبعد ازدياد الشرخ بين البلدين الشقيقين إلى حدود قصوى، لا يبدو أنّ القصة ستفضي إلى خير سوريًّا ولبنانيًّا على السواء، فمثل هذه الوقائع مرشّح للانتقال إلى أمكنة أخرى.

لا يمكن لمن يتابع المشهد تجاهل ما حدث ويحدث في لبنان، فالعنصرية التي كشفت عن قباحة وجهها، وتحولت إلى حملة جارفة، واضعةً اللاجئين السوريين ضمن تصورات شيطانية، هي التي تقف وراء هذه الأحداث المؤسفة، التي تفرغ لها شعبويو الطرفين من أجل التحريض وفتح ساحات انتقامية.

من الجانب السوري، أصبح كل ما يتعلّق بالرد على نضال الأحمدية، وقصة "الشوكولامو"، أمرًا ممجوجًا وثقيل الظلّ، فمن يرون بعين العقل لا يأبهون أصلًا لرأي مريض بحقّ شعب كامل، ويعرفون جيدًا أن الرد الأفضل على أمثال هؤلاء هو التجاهل، كي يموت التصريح الأحمق بسكتة إلكترونية مباشرة، ذلك أن المجادلات وانفتاح مدى التعليقات والتعليقات المضادة يجعل من السفلة أصحاب رأي، ومن الهراء أفكارًا!

وصول الحال إلى هذه النقطة أمر مخجل فعلًا، فليس الاشتباك الفيزيائي هو المشكلة وحسب، بل ثمة ذلك الاستعراض المتباهي للقوة وعديد الرجال بين أشخاص ومجموعات من البلدين، ظهروا في فيديوهات استعراضية للردّ على فيديوهات الطرف الآخر، وكأنّهم يقولون إننا لا نحتشد لغير الشرّ!

أما الخطابات في البثوث المباشرة، الفردية والجماعية، فتُشعرنا أن سوريا ولبنان من أفضل بلدان العالم.

لا نعرف الحدود بين الوطنية والعشائرية، بل يتداخلان إلى درجة يتطابقان فيها تطابقًا كاملًا، فيصبح البلدُ عشيرةً، وتصبح العشيرة بلدًا، ولا يمكن ردّ ذلك لغير الهزيمة النفسية التي يعيشها الطرفان على أرض الواقع. وما دمنا نتحدث عن بلدان فتّتتها المليشيات، فصورة العشيرة هنا هي صورة المليشيا. الأمر الذي جعل استحضار العشيرة يقتصر على صورتها السلبية بوصفها قوة عنف وبطش، وأنها لا تفكر خارج منطق الغزو والسلب، وهذا غير صحيح أبدًا، ربما كانت العشيرة كذلك في الماضي، لكنها، خصوصًا وأنها أقدم رابط قرابة اجتماعي، يمكن أن تكون إطارًا للتعاون الإنساني، وعلى الأخص في إطار حفظ السلم العام.

لا يمكننا كشعوب غارقة في هزيمتها أن نفاخر بشيء. كل مفاخرة نكران للواقع المهزوم. وكل مباهاة هرب من شجاعة مواجهة الانهيار اللامتناهي

 

في النهاية، كل ما حدث يدور حول الفخر الذكوري أولًا وأخيرًا، فالرجولة التي يُحتفى بها، وتتلقى أصناف الثناء والمديح، هي رجولة الجسد الشاب، المزهو بعضلاته، والذي يرغب أصحابها باستعراضها تحت مسمى الشهامة، ولهذا بالذات تحضر كل فعاليات هذه المشكلة على منصة تيك توك بشكل أساسي، وتغيب غيابًا غير مبرر عن المنصات الأخرى، ما يدفعنا للسؤال: هل هذا الشكل من الصراع له شكل محدد من المنصات؟

يؤكد اختيار المنصة أن المشكلة أكبر من عدد المشتبكين لأنها تتصل بوضع سوريا خلال أكثر من عقد، ووضع لبنان خلال أكثر من ربع قرن. وهذا ما يجعل هذا الصخب يغدو رسالةً من كلّ ذاتٍ إلى نفسها، لعلها تشعر ببعض التحسن بعد الإذلال المتراكم عبر زمن طويل.

لا يمكننا كشعوب غارقة في هزيمتها أن نفاخر بشيء. كل مفاخرة نكران للواقع المهزوم. وكل مباهاة هرب من شجاعة مواجهة الانهيار اللامتناهي. لم يسقط النظام الأسديّ في سوريا. ولم ينهض لبنان من الهاوية التي تدحرج إليها، ولم تزدنا تجاربنا القاسية إلا تمزقًا ليس هناك ما ينبئُ بأنه سيتوقف.

أما حديث نصرة المظلوم فلا يوجد من يقف ضده، لكن من قال إن مناصرة المظلومين لا تتحقق سوى من خلال هذه الأفعال وحسب؟ ألم يكن بوسع من نزلوا إلى الشارع للضرب والتكسير أن يعملوا على نشر تلك المظلمة على الملأ في الفضاء الرقمي، إلى أن تصبح قضية رأي عام، فيُنصف المظلوم من جهة، ويتاح نقاش عمومي فيه سعي للخير الإنساني من جهة أخرى؟ ألا يقدم التضامن الصادق، البعيد عن مختلف أنواع الانفعالات الآنية، دعمًا نفسيًّا عميقًا في مجتمع الهجرة؟ ألا يساعد على بناء الهوية الجديدة، بدلًا من الإضرار بصورة هذا المجتمع المتضعضعة أصلًا، من وصمه بالهمجية والعنف من قبل أحزاب وإعلام اليمين؟ متى يولد الإدراك بأن استمرار حفلة التنابز الطائف، في الحياتين الواقعية والافتراضية، سيظل يخلق بيئة مثالية لصناعة مزيد من الخراب، والدفع نحو مزيد من الانهيار؟

ما نعرفه حقًّا أنّ هوشة ألمانيا هي الأخرى لن تستطيع أن تكون درسًا!