24-سبتمبر-2023
دبابة روسية مدمرة

دبابة روسية مدمّرة تعرض للمواطنين في أوكرانيا (Getty)

لطالما اعتُبر خط الغاز الطبيعي "نورد ستريم 1" الذي يخرج من روسيا ويعبر بحر الشمال ليصب في ألمانيا بمثابة شريان الحياة بالنسبة إلى أوروبا، وكان من المقرر أن يلحقه شقيقه "نورد ستريم 2" الذي لم يُقدّر له أن يرَ النور. لكن ذلك تغير يوم الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022 عندما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقتحام الأراضي الأوكرانية وتقسيم التاريخ الحديث إلى حقبتين، ما قبل ذلك اليوم وما بعده.

تلك الحرب لم تكن وليدة ذلك اليوم على أية حال، إذ يمكن القول أن جذورها في روسيا تعود إلى تسعينيات القرن الماضي عندما انهار الاتحاد السوفييتي وترنّحت تلك القوة العظمى في الشرق، بينما أخذت إرهاصاتها شكلها الحالي عام 2014 عندما احتلت روسيا (أو استعادت بحسب الرواية المحلية) شبه جزيرة القرم.

حصلت واقعتان رئيسيتان تم التمكّن من الكشف عنهما يرى فيهما محللون محاولاتٍ أوكرانية لضمان مقعدٍ في تلك الحرب، بينما يرى آخرون أن محاولة للمحافظة على الرأي العام الغربي في صفّ أوكرانيا مع تصاعد المخاوف حول تزعزع الدعم مع قرب الانتخابات الأميركية

وعليه، ومع احتشاد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية منذ نهاية العام 2021، بدأ جميع الأطراف بالضغط على بعضهم لتفادي تبعات هذه الحرب التي نشهدها اليوم، أو السعي لتحقيق أكبر مكاسب منها. ولعلّ أكبر ورقة ضغط كانت تلك الأنابيب التي مدّت عبرهما روسيا الاتحاد الأوروبي بـ 45 في المئة من نصيبه من الغاز الطبيعي عام 2021.

وفي الثاني والعشرين من فبراير/شباط وقبل الغزو بيومين، أعلنت السلطات الألمانية تجميد مشروع "نورد ستريم 2"، الذي علّقت روسيا، كذلك الاتحاد الأوروبي، آمالًا عريضة عليه، حتى إشعارٍ آخر. وبالمثل، في الثاني من سبتمبر/أيلول 2022، أعلنت شركة "غازبروم" الروسية، المالكة والمشغلة لخطّي أنابيب الغاز بنسبة 51 في المئة، إيقاف خط "نورد ستريم 1" حتى إشعارٍ آخر كذلك، من أجل "إجراء أعمال صيانة عليه".

لم يستمر ذلك الحال كثيرًا، ففي ليل 26 سبتمبر/أيلول 2022، عند الساعة 02:03 بالتوقيت المحلي، تم اكتشاف انفجار سرّي لم يتبنّه أحد مصدره خط "نورد ستريم 2"، إذ تم الإبلاغ عن انخفاض الضغط في خط الأنابيب وبدأ الغاز الطبيعي بالتسرب إلى السطح جنوب شرق جزيرة بورنهولم الدنماركية. وبعد سبع عشرة ساعة، حدث الشيء نفسه في "نورد ستريم 1"، مما أدى إلى ثلاثة تسربات منفصلة لغاز الميثان شمال شرق بورنهولم، وأصبحت جميع الأنابيب الثلاثة المتضررة غير صالحة للعمل.

في اليوم التالي للحادثة، وجهت أوكرانيا أصابع الاتهام نحو روسيا بالتسبب في تخريب خطّي الغاز الرئيسيين في أوروبا فيما وصفته بأنه "ليس أكثر من هجوم إرهابي خططت له روسيا"، وقال مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك إن الأضرار التي لحقت بنورد ستريم 1 و2 كانت "عملا عدوانيًا" تحاول روسيا من خلاله التسبب في حالة من الذعر في الاتحاد الأوروبي قبل الشتاء.

ودعا بودولياك حينها شركاءه الأوروبيين لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، قائلاً "إن أفضل رد واستثمار أمني هو امتلاك أوكرانيا المزيد من الدبابات. وخاصة الألمانية منها"، التي حصلت عليها في نهاية المطاف بعد جولة نقاشات عديدة بين ألمانيا والولايات المتحدة.

لكن بعد خمسة أشهر على الحادثة، في السابع من مارس/آذار 2023، اقترب مسؤولون أميركيون من التوصل إلى الجهة الفاعلة وراء الهجوم التخريبي على أنبوبي الغاز، وأشاروا لصحيفة نيويورك تايمز إلى أن مجموعة موالية لأوكرانيا نفذت الهجوم على خطوط أنابيب نورد ستريم العام الماضي، وفقًا لمعلومات استخباراتية اطلعوا عليها.

وقال المسؤولون الأمريكيون إنه ليس لديهم دليل على تورط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أو كبار مساعديه في العملية بشكلٍ مباشر، أو أن الجناة كانوا يتصرفون بناءً على توجيهات أي مسؤول حكومي أوكراني، لكنهم رأوا أن أوكرانيا وبعض حلفائها الأوروبيين لديهم الدافع المحتمل الأكثر منطقية لمهاجمة خطوط الأنابيب. إذ عارضوا المشروع لسنوات، ووصفوه بأنه تهديد للأمن القومي لأنه سيسمح لروسيا ببيع الغاز بسهولة أكبر إلى أوروبا.

ورفض المسؤولون الأمريكيون الكشف عن طبيعة المعلومات الاستخباراتية أو كيفية الحصول عليها أو أي تفاصيل عن قوة الأدلة التي تحتوي عليها. وقالوا إنه لا توجد استنتاجات قاطعة حول هذا الأمر، مما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال أن تكون العملية قد تم إجراؤها بشكل غير رسمي من قبل قوة وكيلة لها اتصالات بالحكومة الأوكرانية أو أجهزتها الأمنية.

لكن في السادس من يونيو/حزيران الفائت، أفادت صحيفة واشنطن بوست بأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن علمت،  قبل ثلاثة أشهر من استهداف خطوط نورد ستريم، من حليف أوروبي مقرب أن الجيش الأوكراني خطط لهجوم سري على الشبكة تحت البحر، باستخدام فريق صغير من الغواصين الذين يقدمون تقاريرهم مباشرة إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية.

تم جمع تفاصيل حول الخطة، التي لم يتم الإبلاغ عنها سابقًا، من قبل جهاز استخبارات أوروبي ومشاركتها مع وكالة المخابرات المركزية في يونيو/حزيران 2022. ووفّرت بعضًا من الأدلة الأكثر تحديدًا حتى الآن التي تربط حكومة أوكرانيا بالهجوم النهائي على الأنابيب في بحر البلطيق.

واستند تقرير المخابرات إلى معلومات تم الحصول عليها من شخص في أوكرانيا. ولم يتسن للصحيفة التأكد من معلومات المصدر على الفور، لكن وكالة المخابرات المركزية الأميركية شاركت التقرير مع ألمانيا ودول أوروبية أخرى في يونيو الماضي، وفقًا للعديد من المسؤولين المطلعين على الأمر، الذين تحدثوا للصحيفة بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة العمليات الاستخباراتية الحساسة والمناقشات الدبلوماسية.

تم تسريب العشرات من الوثائق السرية عبر الإنترنت، وكشفت عن معلومات حساسة مخصصة لكبار القادة العسكريين والاستخباراتيين. وفي تحقيق حصري، استعرضت صحيفة واشنطن بوست أيضًا عشرات الوثائق السرية الإضافية، والتي لم يتم الإعلان عن معظمها. تم اتهام جاك تيكسيرا، وهو عضو شاب في الحرس الوطني الجوي في ولاية ماساتشوستس، بتسريب مئات الصفحات من المعلومات الاستخبارية العسكرية السرية. وذكرت الصحيفة أن الشخص الذي قام بتسريب المعلومات شارك المستندات مع دائرة صغيرة من الأصدقاء عبر الإنترنت على منصة الدردشة Discord.

وتظهر التفاصيل المحددة للغاية، والتي تشمل أعداد العملاء وأساليب الهجوم، أنه منذ ما يقرب من عام، كان لدى الحلفاء الغربيين أساس للاشتباه في ضلوع كييف في عملية التخريب. وقد تعزز هذا الاشتباه في الأشهر الأخيرة عندما كشف محققو إنفاذ القانون الألمان عن أدلة حول التفجير الذي يحمل أوجه تشابه عديدة مع ما قال الجهاز الأوروبي إن أوكرانيا كانت تخطط له.

وأشارت الصحيفة إلى أن تسليم التقارير للجنرال فاليري زالوزني، وهو أعلى ضابط عسكري في أوكرانيا، وإبقاء زيلينسكي خارج الحلقة كان من شأنه أن يمنح الرئيس الأوكراني مبررًا لإنكار تورطه في هجوم جريء على البنية التحتية المدنية من شأنه أن يشعل الغضب الشعبي ويعرض الدعم الغربي لأوكرانيا للخطر، وخاصة في ألمانيا، التي كانت تحصل قبل الحرب على نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا.

لاحقًا، تحدثت تقارير إعلامية أخرى عن خطة تشبه الخطة الأوكرانية المزعومة، حيث قامت مجموعة من ستة أشخاص يحملون جوازات سفر مزورة باستئجار قارب شراعي غادر ميناء ألماني في وقت قريب من الانفجارات. وبحسب ما ورد كانت للمجموعة علاقات مع شركة وهمية أنشأها الأوكرانيون؛ وقال محققون ألمان إن الهجوم كان يتطلب مساعدة من أجهزة أمن الدولة.

وأكد المدعي الاتحادي الألماني أنه تم تفتيش سفينة يشتبه في أنها تنقل متفجرات في يناير/كانون الثاني. ونفت أوكرانيا في السابق أي تورط لها فيها، ورفضت هذه المزاعم ووصفتها بأنها "نظريات مؤامرة".

وفي آخر تطور للأحداث، ذكرت تحقيقات إعلامية أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية حذرت أوكرانيا من تدمير نورد ستريم قبل أشهر من الهجوم على خطوط أنابيب الغاز، وذلك بعد تلقيها معلومات من المخابرات العسكرية الهولندية.

قصة أخرى، تتشابه بالغموض حولها وتعدد أصابع الاتهام، تختلف عن حادثة نورد ستريم بوجود ضحايا مدنيين وأثر اقتصادي أضعف، حدثت مطلع سبتمبر الجاري، إذ أفاد مسؤولون أوكرانيون بأن 17 شخصًا على الأقل قتلوا وأصيب كثيرون آخرون في هجوم صاروخي على سوق مزدحم في مدينة كوستيانتينيفكا شرق البلاد، مما أثار إدانة فورية من الرئيس فولوديمير زيلينسكي والأمم المتحدة وحلفاء كييف.

وأظهر مقطع فيديو للهجوم، نشره مسؤولون أوكرانيون على وسائل التواصل الاجتماعي، أشخاصًا يسقطون في الشوارع في المنطقة التي سقط فيها الصاروخ في المدينة الصناعية القريبة من باخموت، الخط الأمامي للحرب حاليًا. وقال وزير الداخلية الأوكراني إيهور كليمينكو إن 17 شخصا لقوا حتفهم وأصيب 32، مضيفا أن عملية البحث والإنقاذ قد اكتملت. وقال زيلينسكي إن طفلا كان من بين القتلى. وسلّمت عشرات وسائل الإعلام الغربية بتلك الحقيقة وسمّت الحادثة بـ "الهجوم الروسي".

وأدان زيلينسكي، في كلمة ألقاها بعد ساعتين فقط من الواقعة، روسيا على اعتبار أنها من تقف وراء الهجوم، إذ قال: "يجب هزيمة هذا الشر الروسي في أسرع وقت ممكن"، واصفا الضربة الصاروخية بأنها هجوم متعمد على "مدينة مسالمة".

كما ندد دينيس براون، مبعوث الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في أوكرانيا، بالهجوم ووصفه بأنه "حقير"، وأدانه الاتحاد الأوروبي ووصفه بأنه "شنيع وهمجي". فيما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير إن هذه "الهجمات الروسية الوحشية" تؤكد أهمية مواصلة دعم شعب أوكرانيا.

لكن الأدلة التي جمعتها وحللتها صحيفة نيويورك تايمز، وكشفت عنها في تحقيق نشرته منذ خمسة أيام، بما في ذلك شظايا الصواريخ وصور الأقمار الصناعية وروايات الشهود ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، تشير بقوة إلى أن الضربة كانت نتيجة لصاروخ دفاع جوي أوكراني خاطئ أطلقه نظام إطلاق بوك.

وذكرت الصحيفة أن السلطات الأوكرانية حاولت في البداية منع الصحفيين من الوصول إلى حطام الصاروخ ومنطقة التأثير في أعقاب الغارة مباشرة. لكن الصحفيين تمكنوا في نهاية المطاف من الوصول إلى مكان الحادث ومقابلة الشهود وجمع بقايا السلاح المستخدم. فيما قال متحدث باسم القوات المسلحة الأوكرانية إن جهاز الأمن في البلاد يحقق في الحادث، وبموجب القانون الوطني لا يمكنه التعليق أكثر من ذلك.

وبحسب الصور التي حللتها الصحيفة، تظهر لقطات الكاميرا الأمنية أن الصاروخ طار إلى كوستيانتينيفكا من اتجاه الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا، وليس من خلف الخطوط الروسية. ومع سماع صوت الصاروخ المقترب، بدا أن أربعة من المارة على الأقل أداروا رؤوسهم في نفس الوقت نحو الصوت القادم، باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا. وقبل لحظات من سقوطه، يظهر انعكاس الصاروخ أثناء مروره فوق سيارتين متوقفتين، مما يظهر أنه يتجه من الشمال الغربي.

وتكشف أدلة أخرى أنه قبل دقائق من الضربة، أطلق الجيش الأوكراني صاروخين أرض جو باتجاه خط المواجهة الروسي من بلدة دروزكيفكا، على بعد 10 أميال شمال غرب كوستيانتينيفكا. إذ كان مراسلو صحيفة نيويورك تايمز في دروزكيفكا عندما سمعوا إطلاق صاروخ في الساعة الثانية بعد الظهر، أعقبه إطلاق صاروخ آخر بعد بضع دقائق. ويتوافق توقيت عمليات الإطلاق هذه مع الإطار الزمني للصاروخ الذي ضرب السوق في كوستيانتينيفكا، حوالي الساعة 2:04 بعد الظهر.

بالإضافة إلى ذلك، قال شاهدان تحدثا إلى الصحيفة إنهما رأيا الصواريخ تُطلق من دروزكيفكا في اتجاه خط المواجهة الروسي في وقت قريب من الغارة؛ وقال أحدهم إنه رأى الصواريخ تتجه نحو كوستيانتينيفكا. وقال جندي أوكراني متمركز في دروزكيفكا، طلب عدم الكشف عن هويته، إنه سمع إطلاق صاروخين في نفس الوقت تقريبًا.

وقال أحد الشهود أيضًا إن الصواريخ أُطلقت من حقول على مشارف البلدة، وهو مكان يقول السكان إنه يستخدمه الجيش الأوكراني ورأوا منه سابقًا صواريخ الدفاع الجوي. ورأى مراسلو نيويورك تايمز الذين زاروا الموقع دلائل تشير إلى أنه تم استخدامه مؤخرًا من قبل الجيش، بما في ذلك الخنادق وحفر القمامة والمسارات الواسعة التي تشير إلى مرور مركبة عسكرية كبيرة.

وفي أعقاب الهجوم، لم تكتفِ السلطات الأوكرانية بتوجيه أصابع الاتهام نحو روسيا، بل قالت إن القوات الروسية استخدمت صاروخًا أطلقه نظام الدفاع الجوي S-300، والذي استخدمته روسيا لاعتراض الطائرات وضرب أهداف على الأرض. لكن تحليل نيويورك تايمز يكشف أن صاروخ S-300 يحمل رأسًا حربيًا مختلفًا عن ذلك الذي انفجر في كوستيانتينيفكا.

كانت الواجهات المعدنية للمباني الأقرب إلى مكان الانفجار مثقوبة بمئات الثقوب المربعة أو المستطيلة، التي ربما تكونت بسبب أجسام تشبه المكعبات انفجرت إلى الخارج من الصاروخ. وتتوافق قياسات الثقوب والشظايا التي عُثر عليها في مكان الحادث، من حيث الحجم والشكل مع سلاح واحد على وجه الخصوص: صاروخ 9M38، الذي تطلقه مركبة بوك المتنقلة المضادة للطائرات. ومن المعروف أن أوكرانيا تستخدم نظام بوك.

منذ لحظة عبور القوات الروسية الحدود الأوكرانية في فبراير العام الماضي، والجميع يتحدث عن "حرب المعلومات" التي تلعبها روسيا، التي تعتبر أحد أهم اللاعبين العالميين في ميدان التضليل والتلاعب بالمعلومات، ضد أوكرانيا. وحتى مطلع أيلول/سبتمبر الجاري، نشر مركز أبحاث "سوشال يوروب" ورقةً بعنوان "روسيا تفوز في حرب المعلومات"  فهل يمكن اعتبار الواقعتين أعلاه محاولاتٍ أوكرانية لضمان مقعدٍ في تلك الحرب، أم أنها تحاول بشتى الوسائل المحافظة على الرأي العام الغربي في صفّها مع تصاعد المخاوف حول تزعزع الدعم مع قرب الانتخابات الأميركية؟