20-مارس-2023
العراق ولبنان

هل ينقص الشعب اللبناني أي خلاف أو أزمة جديدة، خصوصًا مع الشعب العراقي والدولة العراقية؟ ففوق كل ما مر، ويمر، به الشعب اللبناني، وفوق كل ما تمر به دولته "المفترضة"، هل تنقصنا مشكلة إضافية مع دولة بحجم العراق وببعدها الاستراتيجي، لكي يؤدي السلوك المرفوض لحرس وزارة وعنصر أمني آخر، يُفترض أن يحموا وزارة التربية وينظموا الأمور وحركة الناس حولها، إلى إحداث مشكلة مع دولة تعد من أكثر الدول التي حاولت مساعدة لبنان في ظل الخيارات الاستراتيجية التي أُسقطت على البلاد، وأدت إلى عزلنا عن بقية الدول في المنطقة، وفي العالم؟

الدول عادة ما تبحث عن امتداد والتفاف شعبيين من دول الإقليم حولها بمعزل عن الموقف الرسمي لنظامها وأنظمة تلك الدول، والذي عادة ما يكون امتدادًا لمواقف الشعوب.

هذا ليس بالسؤال الذي يمكن أن يُطرح، بأي حال من الأحوال، لا على مستوى تكتيكي ولا استراتيجي، ولا حتى على مستوى منطقي. فالدول عادة ما تبحث عن امتداد والتفاف شعبيين من دول الإقليم حولها، أو بالأحرى، فإن الدول التي تدرك أهدافها الاستراتيجيّة تعلم أن حليفها الدائم هو الشعوب في محيطها والتضامن الشعبي معها ومع شعبها، بمعزل عن الموقف الرسمي لنظامها وأنظمة تلك الدول، والذي عادة ما يكون عاملًا مساهمًا، ويكون، وبشكل طبيعي ومنطقي، امتدادًا لمواقف الشعوب.

هذا إن كنا نتحدث ونحن ننظر إلى المشهد على أساس تعامل الدول الطبيعية مع بعضها، أما أن تكون الدولة ذاتها مائعة على المستوى الداخلي وهشّة في نظامها السلطوي وفي هيبتها ومؤسساتها وقوانينها، وأن تكون منظوماتها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية معطوبة، فهنا يأخذ الكلام بعدًا آخر، إذ تصبح مراكمة الأخطاء مع الشعوب الأخرى مجرد استكمال لحالة التردي القائمة مسبقَا، وهنا تتموضع حالة لبنان على وجه الخصوص.

والحال أن المشاهد الصادمة لمقطع فيديو انتشر كالنار في الهشيم في مختلف وسائل الإعلام وعلى مختلف منصات ووسائل التواصل الاجتماعي، يظهر المعاملة الوحشية وغير اللائقة، التي يتعامل فيها حرس وزارة التربية اللبنانية وأحد عناصر الجهاز الأمني المعني بحماية الوزارة مع طلاب عراقيين كانوا يتجمهرون في مبنى الوزارة بهدف إتمام وإنجاز معادلات إفاداتهم وشهاداتهم، كان صاعقًا. فمنظر حمل العنصر الأمني لقضيب حديدي يهدد به الطلاب وهو يصرخ عليهم بشكل هستيري، هو مشهد لا يمكن وصفه إلا بالزقاقي!

 لم تمر سوى بضع ساعات حتى أصدر وزير التربية اللبناني بيانًا حاول من خلاله توضيح ما جرى، وتبعته وزارة التربية ببيان مماثل لاحقًا، ويمكن للمتابع أن يستشف من البيانيين أن الهدف منهما هو محاولة تفسير ما جرى، ووضع الأمور في نصابها وفقًا لرواية وزارة التربية نفسها.

لكن الأزمة هي أن البيانين يأخذان طابع التفسير بهدف التبرير، أكثر مما يأخذان طابع الشفافية بهدف المحاسبة، وذلك ما جرت عليه العادة في لبنان. وقد شاهدنا السلوك ذاته قبل حادثة الاعتداء على الطلاب العراقيين بيومين، حين قام وزير الأشغال اللبناني "علي حمية"، المحسوب على "الثنائي الشيعي" أي حزب الله وحركة أمل، بإصدار بيان "توضيحي" حول ما ظهر في الفيديو المتداول للحظة إطلاق النار من منطقة قريبة إلى مطار بيروت الدولي، والذي يوثّق كيف مرّت الرصاصات بالقرب من طائرة مدنية كانت في طريقها للهبوط في المطار، وهو بيان أقل ما يقال فيه إنه غير مسؤول وتبريري وسطحي، إذ يقول إن الحادثة كانت مجرد إشكال بين عائلتين (محميتين على الأغلب من قبل الثنائي الشيعي نفسه) تم استخدام الأسلحة على إثره، وكانت زخات الرصاص التي أطلقت نحو الطائرة مجرد حادثة عابرة لا تستهدف الطائرة ولا المطار على وجه الخصوص.

بهذه الخفة تتعامل الأجهزة والوزارات في لبنان مع حوادث على هذا القدر من الخطورة، بتفسير بسيط يحمل في طياته الكثير من التبرير والمداهنة والالتفاف على أصل الكارثة التي نعيش فيها والتي يستمر بإنتاجها النظام وعلاقات القوة فيه، وهي علاقات قوّة يتحمل الفريق السياسي الذي أتى بهذا الوزير، المسؤولية الكبرى فيها، لكونه الفريق الذي يمثّل نقطة قوة ما تبقى من النظام في لبنان والدرع الحامي له والمقرر الأساس فيه.

البيانان الحكوميان يأخذان طابع التفسير بهدف التبرير، أكثر مما يأخذان طابع الشفافية بهدف المحاسبة، وذلك ما جرت عليه العادة في لبنان.

فلبنان دولة لا وجود لأي نوع من أنواع المحاسبة فيها، وما يضبطها هي مجرد تسويات داخلية فقط ومحاولة دائمة لإعادة إنتاج هذا النوع من التسويات بعيدًا عن الدستور والقانون وبعيدًا عن أي منطق مؤسساتي. تسويات عادة ما تتم إما بتمييع الحوادث أو بتقديمها على أنها مجرد حوادث فردية عابرة أو أنها ارتكبت على أيدي عناصر "غير منضبطة"، وكل ذلك يهدف إلى التعتيم على أي محاولة واضحة لتحميل المسؤولية لجماعات أكبر في الدولة. هل ننسى أن الحرب الأهلية التي دمرت البلد واقتصاده وليرته وفكّكت مجتمعه وخلفت ما لا يقل عن مئتي ألف قتيل ومفقود ومهجر ومخطوف، هل ننسى أنها انتهت من دون تحميل المسؤولية لأي من الأطراف؟ لا بل انتهت بعفو عام أقرّه أمراء الحرب لضمان استمرار حكمهم في زمن السلم! هذا هو منطق دولة تقوم على جماعات وطوائف لكل منها موظفون وعناصر في نظام بيروقراطي فاسد من رأسه إلى أدناه، فالعنصر والعصابة ليسا مجرد عنصر وعصابة فقط، أو فردًا ومجموعة أفراد فحسب، بل هم أفراد وعصابات ضمن طائفة لها امتدادها، ولها طابع المظلومية الخاص بها، والفيتو المجتمعي حاضر دائمًا ليغطي على التردي الذي يتسمون به.

لبنان دولة لا وجود لأي نوع من أنواع المحاسبة فيها، وما يضبطها هي مجرد تسويات داخلية فقط ومحاولة دائمة لإعادة إنتاج هذا النوع من التسويات بعيدًا عن الدستور والقانون وبعيدًا عن أي منطق مؤسساتي.

والحال أيضًا أن وزير التربية وبيان الوزارة الموازي وضعا الأمر في سياق الفوضى التي أحدثتها كثرة أعداد الطلاب العراقيين الذين كانوا في محيط مبنى الوزارة وداخله، والذين لا يتحملون أية مسؤولية بذلك. ناهيك عن أن عمل الحرس والعناصر الأمنية المتواجدة في مبنى أي وزارة أو مؤسسة عامة أو خاصة ومحيطها، هو تنظيمي لا حمائي، وبالتالي، فإن التحجج بالفوضى يعني أن هناك من لا يقوم بواجباته على أكمل وجه ويجب محاسبته سريعًا. في حين أن الجهاز الإداري للدولة يعاني من قلة الكفاءة، ومن الأساليب والسلوكيات المرفوضة التي لا يعاني منها الطلاب العراقيون فقط، بل يعاني منها أيضًا المواطنون والطلاب اللبنانيون، إذ إننا نتابع يوميًا الأخبار عن مئات الشكاوى المتعلقة بكيفية معاملة موظف ما لمواطن مقيم وطالب ومغترب، ونتابع يوميًا مشاكل تحدث بسبب هذه الممارسات التي لا يمكن القبول بها.

بالحقيقة، يفتح الحادث الذي جرى الباب للحديث عن التردي على مستوى بيروقراطية الدولة، وتفشي الهشاشة فيها، بعد أن بات راتب الموظف لا يكفي لطعام أو شراب له ولعائلته، الأمر الذي قد يضعه البعض في خانة التبرير، في حين أنه في الواقع يوجه أصابع الاتهام للحكومة والوزراء الذين فشلوا في معالجة مشاكل المواطنين ويستمرون بالتذاكي عليهم، كما تفعل الحكومة الحالية مجتمعة، وبالأخص في وزارة التربية التي يحاول وزيرها الذي يصطف بمواقفه مع المصارف التي صادرت أموال المودعين، الالتفاف على مطالب الأساتذة المحقة، لا بل إنه يعتمد سياسة الترغيب والترهيب والتهديد والوعيد ليعيدهم إلى مهماتهم التعليمية ولو كان ذلك على حساب تعبهم وشهاداتهم والشروط الأولية لعيشهم، أو على حساب مستقبلهم ومستقبل أولادهم. فمن الأفضل أن يقوم الوزير بواجباته المتمثلة بمعالجة مشاكل الوزارة بشفافية وبالتعاون مع وزارة التربية العراقية، بدلًا من أن يوظف تلك المشاكل ليعيد إنتاج نظام يتسم بالتفلّت، من خلال تبرير سلوك موظف لا يمكن تبريره.