12-أكتوبر-2015

الانتظار الطويل (محمود زيات/أ.ف.ب/Getty)

الزمان: 11 نيسان 2005

المكان: حديقة جبران خليل جبران

"نحن هنا لأنّهم مفقودون، لن نرحل من هنا، سيكون اعتصامنا حتّى معرفة مصيرهم"، يقول أهالي المفقودين في الحرب الأهلية، الذين يقبعون منذ ثمانية أعوامٍ وما زالوا، أو بعض منهم، بينما يئس آخرون، فاختار الرّحيل الأبدي علّه يلاقي هناك من فقد".

إلياس يوسف البيطار، لبناني مخطوف منذ أكثر من ثلاثين عامًا، توقّفت عقارب الزّمن عنده بتاريخ 25 تشرين الثّاني 1975 كانت منطقة القنطاري آخر مكان شوهد فيه. إلياس ليس المفقود الوحيد في السّجون السّورية، مثله كُثُر من المفقودين اللبنانيين، إمّا في السّجون السّورية، الإسرائيلية، أو في مقابرَ جماعيّةً لم تُكتشف بعدُ لتقصير الدّولة عن القيام بذلك.

في العام 1996 أقرّ الرّئيس اللبناني إلياس الهراوي بوجود 210 لبنانيين معتقلين في السّجون السّورية، وبعد عامين أعلن الرّئيس السّوري بشار الأسد أنه سيطلق سراح 130 لبنانيًا ويحتفظ بـ 25 آخرين لأنهم "تعاملوا مع إسرائيل". الرقم المذكور يختلف عن الرقم الذي أعلنه سابقًا الهراوي، ويختلف أيضاً عن عدد اللبنانيين الذين أفرج عنهم لاحقـًا (121)، مما يعني أن عدد اللبنانيين الذين لا يزالون محتجزين لدى سوريا هو 34 لبنانيًّا، لكن الدفعة الجديدة التي أفرج عنها في شهر كانون أول من عام 2000، تضمّت 56 لبنانيًا.. علمًا بأن الدولة اللبنانية كانت قبل ستة أشهر قد أوصت بتوفية جميع المفقودين اللبنانيين في إسرائيل وسوريا ولبنان، من بينهم المفرج عنهم، عبر لجنة تقصّي مصير المخطوفين والمفقودين خلال الحرب الأهلية التي أنشأتها الحكومة في شهر كانون الثاني/يناير من العام ذاته.

عدد اللبنانيين الذين لا يزالون محتجزين لدى سوريا هو 34 لبنانيًّا

أرقام، صور، وبعضٌ من معلوماتٍ يأملُ أهالي المفقودين أن تكون صحيحة، لكن الأمل لم يُسعف بعض الأمهات فكان موتهن أقرب. قضوا وقد اعتادوا اللقاء سويًا في خيمتهم، في مشهدٍ بات يتكرّر يوميًا منذ ال 2005، تتوافد الأمهات إلى خيمة الأمل، يبتسمن وينتظرن الآتي لعله كان حبيبًا فقدنه، يأتين من بيروت وضواحيها، صيدا، طرابلس، جبيل، كسروان والمتن ويتجمّعن في حديقة جبران. لا يقوين ربّما على الصّراخ ولا الاشتباك، كلّ ما يفعلنه هو اعتصامهن علّ "الإسكوا" أو المسؤولين اللبنانيين يلتفتون ولو لمرّة إلى مطلبهم، حيث لم يعد ينفع معهم تعهّداتٍ ولا إبرَ مورفين موضوعيّة تُنسيهم أو أقلّه تُسكتهم عن البوح بألمهم، فلم يُقفل الباب على مآسي الحرب بعد، فبالإضافة إلى الضّحايا والجرحى، هناك مفقودون وأمّهات يتأملّهن الكون راضيًا بحُرقتهم.

تتشابه الأمهات، الزوجات، الأبناء والبنات هنا على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، عائلاتٌ جمعها الألم فاتخذت من ألمها جامعًا لها فيما بينها، يتبادلون الحكايات عن مفقوديهم، يمسحون دموعهم ويكفكفونها. فمن فقدوهم لا يرضَون أن تنسكب منهم دمعةُ ذلٍّ واحدة، لا يعرفون إذا ما كان أبناؤهم قد قضوا أم ما زالوا على قيد الحياة، هم مفقودون، لا اسم آخر يُطلق عليهم من قبل الأمم المُتحدة غير ذلك.

إقرأ/ي أيضًا: الأسرى الأردنيون.. سيرة خذلان حكومي متعاقب

الموت ليس قمّة الألم على الرّغم من وجعه، فأصل وجع الموت هو الفقد، فالميت هو مفقود حتمًا، لكن من يعرف إن كان المفقود ميتًا أم سجينًا مٌعذّبًا؟، خرجت سوريا من لبنان عام 2005، قبل خروجها صدر القرار 1559 الذي طالبها بالخروج لكنه أيضًا لم يلحظ قضية المفقودين، أتت حكومةٌ جديدةٌ وأكثريةٌ قديمةٌ جديدة، وهي على خلافٍ مع نظام الأسد (الذي تعج سجونه بالمعذبين)، مع أنّ معظم شخصيات هذه الأكثرية كانوا بالأمس القريب أزلامًا للسوري في لبنان، وشركاء في خطف اللبنانيين، كما كانوا شركاء في قتلهم إبّان الحرب الأهلية، كعادة السّياسيين في لبنان، المواطن لا قيمة إنسانية له حتّى في زمن الانتخابات وكذلك ألمهم، زاروا الخيمة في أولى أيام نصبها واختفوا. تاجروا بالملف إعلاميًا وزايدوا على بعضهم البعض، استغلوه في بازاراتهم السّياسيّة القذرة ثم غادروا وتركوا الأمهات لدموعهن والمفقودين لمصيرهم المجهول.

أفرجت السلطات السورية "تحت الطاولة" مرات عدة عن بعض اللبنانيين، منهم محمد الموسوي وخليل أحمد وعلي مظلوم ووليد إسطفان وجميل هواري في عام 2000، لكنها خطفت في العام نفسه في شهر تمّوز، اللبناني جورج يوسف خوري وثلاثة عسكريين هم: علي عيسى، محمّد الشّوفي وعزّت ياسين.وفي العام 2003 قامت السّلطات السّورية بتسليم جثة أمين حويس إلى ذويه في زحلة ومنعوهم من الإفصاح عن ذلك، كما سلّمت جثث خالد عزالدين وعادل عاجوري وجوزيف زغيب ورضوان إبراهيم، هؤلاء كانوا مفقودين وأصبحوا ضحايا، تنظر أمهاتهن وزوجات بعضهن إلى زميلاتهن في الانتظار ويعزّين أنفسهن، على الأقل، هدأت نارنا وحصلنا حتّى على بعضٍ من ملابسهم بدل إبقاء مصيرهم مجهولًا لا نعرف أننتظرهم أم ندفن ذكرياتنا.

"إذا عاد بعد موتي، أطرقوا على قبري كي أستفيق وأحضنه".. تحمل صورته وتبتسم للكاميرا، وكيف بها تتصوّر عابسةً بينما تحمل صورته على صدرها واسمه في قلبها؟ باعت حُليها وأساورها بحثًا عن معلومةٍ تُشفي غليلها، تركت الضّيعة حيث كان يجلس، تركت بيتها الذي جمعها وإياه زوجًا أو الذي ربي فيه طفلًا، وسكنت خيمةً علّها تهزّ ضمائر قد نامت وأخلاقًا قد هرمت وشاخت، لم يكترث لألمها أحد، مع ذلك لم تُغادر، غادرت رفيقاتها إلى قبورهن وهي تنتظر خبرًا يُسكِنها بيتها من جديد، ولو اتشحت بالسّواد، تريد فقط أن تعرف أين هو وماذا حلّ به.

صديقتها انتظرت ابنها الشّهيد الرّقيب أول يوسف مخايل الحاصباني أكثر من سبعة عشرعامًا لتجده أخيرًا. وجدته رُفاةً في مقبرةٍ جماعية في اليرزة، انتظرته وإذا به يظهر بالقرب منها شهيدًا.

إقرأ/ي أيضًا: مد وجزر الشتات السوري