23-أكتوبر-2015

وقفة احتجاجية في بيروت (مايا هايتفيول/أ.ف.ب/Getty)

على ما يبدو أنّنا كنا موهومين بمساحة الحرية الكائنة في لبنان، لم يكن يومًا هذا البلد مثاليًّا بالنسبة لأبنائه. فمشاكله ومآسيه لا تُعد ولا تُحصى.

فساد إداري، فشل اقتصادي، طائفية تحكم البلاد من ألفها إلى يائها، محسوبيّات، وساطات سياسيّة، غياب العدالة الاجتماعية، غياب نظام صحي، غياب ضمان اجتماعي، فساد مستشري في جميع الميادين وفي جميع الاتجاهات، لا ماء لا كهرباء لا استشفاء. كل هذا، ولكن كان هناك مساحة مضيئة نتغنّى بها، مساحة لطالما ميّزتنا عن البلدان المجاورة مساحة حرّة تسمح لكائن من كان أن يقول ما في باله بلا حسيب ولا رقيب. فبوسع أي مواطن، وخلافًا للبلدان العربية الأخرى، أن يهين رئيس الدولة رئيس الوزراء وينعتهم ليل نهار ب"الحرامية" الفاسدين. أو على الأقل هذا ما كنّا نتوهم. على ما يبدو أن كلّ ذلك كان تمثيلية أو وهْم نجح نظامنا الأمني بخداعنا به حتى حان الوقت وكشف لنا عن وجهه القمعي الحقيقي. إليكم هذه الأحداث، في شهر واحد فقط:

محاكمات عسكرية

بدأ الوجه الآخر للنظام الأمني يتجلى مع بدء الحراكات السلمية في لبنان على أثر أزمة النفايات الّتي أغرقت العاصمة. إذ صُدم اللبنانيون بالعنف الّذي تعاطت به الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين السلميين. وسُجّلت إصابات عديدة بين المتظاهرين بفعل الرصاص الحي والمطّاطي والقنابل المسيلة للدموع الّتي أطلقتها القوى الأمنية .هذا عدا عن الاعتقالات العشوائية الّتي قامت بها مع كل تحرك وكل تظاهرة. أهانوا وسحلوا ناشطين وناشطات في الشارع. واعتقلوهم وهددوهم ولكن عادوا وأفرجوا عنهم. إلّا أنه وعلى ما يبدو لم يشف غليل السلطة الأمنية كل هذه التصرفات القمعية. فقررت مع آخر تحرك اعتقال الناشطين بتهم واهية، لم يعلم معظمنا بوجودها حتى، كتحقير العلم وهز الأسلاك الشائكة، لكن مهلًا هذه ليست بتهم واهية وضعيفة. هذه تهم أودت بالمعتقلين إلى محاكمات عسكرية لا يُعرف مصيرها بعد. نعم محاكمات عسكرية لمواطنين مدنيين في بلد كانت أجهزته الأمنية، حتى أسابيع قليلة، في مخيلتنا وديعة.

اقرأ/ي أيضًا: الأمن اللبناني يكشّر عن أنيابه.. بلطجية وسحل!

جرائم على أفضلية المرور

جرائم وحشيّة ارتكبت بسبب خلاف على أفضلية المرور. امرأة تدوس بسيارتها امرأة أخرى أمام أطفالها وتعيد الكرة أمام أنظارهم. قتلى وجرحى بخلافات على موقف سيارة. أب يقتل ابنه لأنه ركن سيارته مكانه. أزواج يعنّفون زوجاتهم حد الموت ويجدو سبيلًا للنفاذ من العقوبة. لم نقل يومًا بأن هذا البلد مثالي. وجرائم القتل تحدث في كل المجتمعات. ليس بالأمر الغريب. لكن كل هذا العنف بهذه الوتيرة العالية لم يُسجّل سابقًا. فقد ارتفعت معدلات الجرائم من هذا الشكل، بشكل ملحوظ ومخيف في السنتين الأخيرتين. أهي الحرب اللبنانية التي كانت ومازالت ترمي بظلالها على اللبنانيين. أهي الحروب الإقليمية أهو العنف المتلفز أهي الضغوط المعيشية الخانقة. أو كلها مجتمعة لكن الحصيلة واحدة. صورة سوداوية لمجتمع بات مخيفًا لنا جميعًا.

كل هذا العنف بهذه الوتيرة العالية لم يُسجّل سابقًا

الهجرة ولو غرقًا

ليست هي المرّة الأولى التي نسمع بها عن مهاجرين يموتون في البحر. لكن أن يكون المهاجر من عكر ديارنا. من هذا الوطن، الّذي أينعم نلهث فيه جميعنا وراء فيزا إلى أي بلد خارجه ونترحم على أيام الاستعمار الفرنسي الذي رحل دون أن يمنحنا الجنسية السحرية، فلم تجر العادة بأن يرمي نفسه في البحر أي التهلكة الحتمية فقط للخلاص من هذه البلادّ فقد اعتدنا أن من يهاجر بهذه الطريقة، هم الفارّون من آتون الحرب في بلادهم. والسوريون خير مثال على ذلك، الذين هاجر منهم الآلاف بهذه الطريقة لأنّه لم يعد من سبيل آخر للنّجاة، وآخر الدواء الكي/الغرق. لكن في بلد كلبنان، وإن لم يكن الوضع الأمني مستقرّا، وإن لم تكن الخدمات متوفرة وإن كان إيجار شقّة فيه أغلى من الحد الأدنى للدّخل. وإن وإن وإن، لكن بالتأكيد لا حرب مستعرة فيه ولم تضق سبل النجاة. أو على الأقل هذا ما توهّمناه. فعلى ما يبدو ضاقت وتضيق الحياة بمواطني هذا البلد، حتّى اختاروا المجازفة بحياتهم وحياة أبنائهم والهروب وإن كان غرقًا. وهذا إن عنى شيئًا، يعني أن لبنان بات جحيمًا حقيقيًّا لا بدّ من الهرب منه.

مُقعد ثمانيني مشرّد تحت أحد جسور بيروت اختار أن يحرق نفسه

نهج البوعزيزي

مُقعد ثمانيني مشرّد تحت أحد جسور بيروت، اختار أن يحرق نفسه الّتي باتت حملًا ثقيلًا لا يطاق. ولم يعد يطيق الانتظار. فلم يجد الحل إلا بالبنزين وشعلة صغيرة ليرحل من جحيم الحياة في بيروت. ليعود من بعده ويقدم شابّان على إحراق نفسهما اعتراضًا على همجية الأمن في التعاطي مع المتظاهرين. ترى بم فكّر هؤلاء. لم قد تضيق الحياة إلى هذه الدرجة بشباب في مقتبل العمر ليسترخص روحه لهذه الدرجة؟

جرائم فيسبوكيّة

لكلّ من ساورته نفسه بأنّه ملك حائطه على الفيسبوك أو أنّ بإمكانه التغريد بم شاء على التويتر. فليعد التفكير. وليجرِ حساباته جيّدًا .فإذا ما كان هناك من ستاتس أو تغريدة "محرزة" حتى يقضي أيّامًا قد تصبح أسابيع وقد يحاكم على أثرها إذا لم تعجب مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية المعلوماتية. المكتب الّذي أقيم في الأساس لمكافحة قرصنة الحسابات وحماية المواقع من عمليات السرقة والتزوير الّتي تحدث على شبكة الإنترنت، بات ظلّا لحياتنا الافتراضية، يراقب ويحاسب أفكارنا وآراءنا على وسائل التواصل الاجتماعي. وبات القامع الأول لمساحة التعبير في هذا الفضاء الإلكتروني.

تعذيب سجن رومية

في نيسان/أبريل الماضي، تمّ تسريب شرائط فيديو تظهر التعذيب الّذي يتعرّض له موقوفون ومسجونون في رومية. للوهلة الأولى، خيّل لنا أن هذه المشاهد من سجن عدرا في سوريا، أو أبو غريب في العراق. عناصر من قوى الأمن تقوم بعمليات تعذيب وحشية لمسجونين عراة بوضعيات مذلة ومقزّزة. وأتى هذا بعد سنين من الشكاوى التي كان يتقدّم بها أهالي الموقوفين عن التعذيب الذي يتعرّض له أبناؤهم. والدولة تنكر ونحن نصدّقها.

اقرأ/ي أيَضًا: هل قلت تعذيب؟ لبنان ليس أوكرانيا

كل هذه الأحداث انهالت دفعة واحدة علينا. أو على جيلنا بالتحديد، لربّما عرف من سبقونا هذه الحقائق المرّة ولم يحدّثونا بها. لكن، كل هذه الوحشية والهمجية الّتي تمثّلت بعدة مواقف وحدث أن كنّا شاهدين عليها بشكل مباشر أو غير مباشر. كل هذه هي بالتأكيد جديدة علينا. فلسنتين مضتا، كان هذا البلد "كووول" وأمنيّوه "كوول" وسياسيّوه" كووول" وحتّى نحن، المعروف عنّا بأننا الشعب "الكوول". لكن هذا الفصل طُوي وعلى ما يبدو بأنّ علينا أن نعتاد أن هذا البلد ما هو إلّا نسخة أخرى، وإن كانت "مغمورة" عن البلدان المجاورة وأنظمتها القمعية الهمجيّة.

اقرأ/ي أيَضًا: أبرز عشر فضائح فساد في لبنان