08-أغسطس-2018

برونو كاتيانو/ فرنسا

وأنا أشرب قهوة الصباح في البلكونة انتبهت أنني لم أرتد جسدي. لم أكنكن أرى يدي وهي تحمل فنجان القهوة، ولا هذا الظل الممتد إلى جواري! أين نسيته؟ ربما مازال نائمًا في السرير كسولًا كعادته أو أنني نسيته بعد الاستحمام معلقًا على المسمار وراء باب الحمام الصغير!

أو... أو طبقة البخار الخفيفة أثناء الاستحمام حجبت رؤيته فهرب مني. تسلل من تحت المنشفة واختفى.

نهضت للبحث عنه في الأماكن التي اعتدت تركه فيها، في غرفة النوم.. في المطبخ والحمام.. على الأريكة التي أستلقي عليها عادة أمام التلفزيون. عندما عدت إلى البلكونة لمحته من وراء القضبان المقوسة وهو يسير في الشارع بانحناءته الخفيفة المعتادة.

"هذا هو جسدي! هذا هو!"

اندفعت على السلالم مسرعًا وراءه.. كي ألحق به قبل أن يهرب ويختفي إلى الأبد. لا أدري كيف شعر أنني خلفه واختفى.

وقفت أتلفت على ناصية الشارع وأبحث عنه بعيني وسط زحام المارة! من بعيد رأيته يخلع حذاءه ويجري حافياً تحت المطر الخفيف ثم زاغ مني في شارع جانبي موحل بالطين، وكل الدكاكين فيه مغلقة. ليس في هذا الشارع الضيق سوى أنا وجسدي، وكنت أسمع ضحكاته الرنانة حتى بعدما اختفى ولم أعد أراه.

فتحت فتاة شرفتها فجأة في الطابق الأرضي في بيت مطلي بلون أزرق، وأمامه بستان ورد، فسألتها: "رأيت جسدي؟". هزت رأسها ونفت بسبابتها أن تكون رأته، ثم أغلقت الشرفة في وجهي وهي غاضبة.

ابتسامتها المرتبكة قبل أن تغلق الشرفة أوحت لي أنها متواطئة معه وأن جسدي قد يكون مختبئًا مني الآن وراء شجرة الياسمين هذه.. ما الذي يمنعه أن يتسلق شرفة الفتاة ويختبئ أسفل سريرها؟!

كان جسدي دائمًا مولعًا بلعبة الاختباء في أماكن لا أتوقعها ثم يتركني أطارده حيثما ذهب. مرات كثيرة أوقعني في مشاكل لا حصر لها.. مرة بات إلى الصباح على مقهى في شارع فيصل يشرب الشاي باللبن.. ومرة ظل محبوسًا في حمام شقة جارتنا عندما وصل زوجها فجأة.. لا أدري ما الذي يرعبه ويجعله يفر مني بهذه الطريقة؟! لماذا لا يترك لي فرصة كاملة كي أرتديه؟ بعدها نستطيع أن نذهب نحن الاثنين حيث نشاء!

مرة بالكاد ارتديت الرِجل اليمنى ثم فر مسرعًا قبل أن أكمل ارتداء الرِجل اليسرى.. انطلق يطارد فتاة في أزقة بين السرايات إلى أن دخلتْ محل أبيها الجزار الذي انقض على الساطور وطارده بصحبة كلبه الدميم. وفي مرة أخرى وبعد أن ارتديت نصف الرأس فقط، قفز جسدي من النافذة وغاب عني أسبوعًا كاملًا قضاه متسكعًا على شاطئ الإسكندرية.

لماذا يفر مني هكذا؟ هل يبحث عن شخص آخر يرتديه؟ يشعر أننا لا ننتمي إلى بعضنا البعض! لم يخلق أحدنا للآخر! كأن خطأ ما أوقعنا في مصير مشترك.. صدفة قدرية جمعتنا هكذا بلا أي انسجام، ولا أحد منا يملك حق الاعتراض على الآخر!

غادرتُ زقاقًا مهجورًا مع اندفاع المطر، وكنت أسمع لهاثه يدوي في أذني، كأنه يجري في مكان قريب حولي.

على شاطئ البحر في ذلك المقهى المزدحم بوجوه الغرباء رأيته يتطلع إليّ خلسة من وراء حافة الجريدة وهو يدخن الشيشة رغم أنه يعرف أنني لا أطيق رائحة الدخان.

وقفت في مكاني وابتعلت ريقي. زاد يقيني أنني لن أسترد جسدي أبدًا طالما أطارده. لماذا لا أعود إلى شقتي وأترك له حرية القرار، إما أن يعود إليّ بمزاجه أو يهرب مني إلى الأبد.. يُريح ويرتاح؟!

خلعت ملابسي في الحمام الصغير، واستسلمت تحت مياه الدش الدافئة بعد الجري والتعب واللهاث تحت المطر. وبينما كانت عيناي مغمضتين بسبب رغوة الصابون شعرت به يتسلل إليّ متعباً. عاد هكذا من تلقاء نفسه وارتداني.. كانت لحظة امتنان بحضوره لم تدم أكثر من ثوان، فبمجرد أن جلست أشرب قهوتي في البلكونة رأيته يجري في الشارع لكنه هذه المرة تعلق بخيط بالونة حمراء طارت به إلى السماء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هذا الهروب

جمهورية صماء