05-يوليو-2023
Cultural Relativism

النسبية الثقافية (World Atlas)

كان كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين مبهرًا. ونظرية التطور كانت أكبر بكثير من أن تظل مجرد شأن علمي. لقد بدت للكثيرين وكأنها نظرية لتفسير العالم.. مفتاح سحري لجميع الأبواب الموصدة أمام العقل البشري.

وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا كانوا الأكثر احتفاءً بداروين ونظريته، فسحبوا ما قاله العالم الإنجليزي عن الأحياء إلى الاجتماع الإنساني، فإذا كان ثمة سلسلة تطورية طويلة تبدأ من وحيد الخلية وتنتهي بالكائن البشري الأكثر تركيبًا وتعقيدًا، فإن تاريخنا، نحن البشر، ينطوي على سلسلة تطورية مشابهة تبدأ بالإنسان البدائي، البري، المتوحش في أدغال أفريقيا وغابات الأمازون وتنتهي بالإنسان الأوروبي المعاصر. إن القبائل الأفريقية، حسب هذا الفهم، هي ماضي الأوروبيين. وبالطبع فالعكس صحيح: الأوروبيون هم مستقبل هذه القبائل.

لقد كان هربرت سبنسر، ومن قالوا قوله في "التطورية الاجتماعية"، مبرأون من النظرة العنصرية، إذ أنهم آمنوا بـ"الوحدة السيكولوجية" للجنس البشري، ولم يضعوا حواجز صلدة ونهائية بين الأعراق

لقد كان هربرت سبنسر، ومن قالوا قوله في "التطورية الاجتماعية"، مبرأون من النظرة العنصرية، إذ أنهم آمنوا بـ"الوحدة السيكولوجية" للجنس البشري، ولم يضعوا حواجز صلدة ونهائية بين الأعراق، فالأفريقي يستطيع، في سياق التطور، أن يغدو في مصاف الأوروبيين، ذلك أن الأوروبيين أنفسهم كانوا ذات يوم بعيد يعيشون حياة بدائية كالتي يحياها الأفريقي الآن.

ومع ذلك فإن هؤلاء تعرضوا لانتقادات حادة من أجيال لاحقة، فأن تقاس جميع الثقافات والحضارات الإنسانية وفق نموذج أوحد هو النموذج الغربي، وأن تُعد الحضارة الغربية، والحضارة الغربية حصرًا، هي غاية التطور وهدفه، فهذا يعني أننا نقف أمام نظرية تتسم بالسذاجة وتنطوي على تحيز مسبق غير علمي، وإن لم يصل إلى درجة العنصرية.

وفي سياق هذه الانتقادات والاعتراضات ازدهرت "النسبية الثقافية"، والتي سعت إلى دحض أفكار التطورية الاجتماعية ومبادئها، فالثقافات الإنسانية ليست حلقات متتابعة في سلسلة واحدة. إنها تعيش جنبًا إلى جنب، وعلى قدم المساوة من حيث مشروعية الوجود. لكل منها قيم ومثل وأفكار تنبثق من سياقها الخاص، وبالتالي فلكل منها معايير متمايزة، وليس ثمة معيار أوحد، وليس هناك من اتجاه محدد ولا طريق حتمي لتسلكه..

وكما يحدث عادةً في مختلف مجالات العلم والحياة، فإن البندول قد انتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في شطحة واحدة، وسرعان ما صارت "النسبية الثقافية" تبالغ في المساواة بين الثقافات، وفي تبرير كل المعتقدات والأفكار والطقوس والرؤى. فطقوس التضحية بالبشر ووأد البنات واعتبار المرأة جزءًا من المقتنيات المادية، مثلها مثل رؤوس الماشية.. كلها تحوز على الشرعية كونها تنسجم مع المنظومات الثقافية التي أفرزتها. وكذلك فإن جلب المطر بالقرع على الطبول يساوي تمامًا وسائل الاستمطار الحديثة في الدول المتقدمة، ومداواة المرضى بالشعوذة والطلاسم تكافئ أحدث طرائق الطب..

يحمل "النسبيون" نوايا طيبة إزاء ما كان يسمى بالعالم الثالث، إذ يجاهدون في تفنيد مزاعم المركزية الغربية، وفي منح الشرعية والاعتراف بالكفاءة لجميع الثقافات والهويات، ولكنهم يدخلون إلى حظيرة التمييز، بل والعنصرية، من باب آخر. فحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والديمقراطية، والفردية.. هي مفاهيم تقتصر على الغرب فقط لأنه هو الذي أنتجها، وبالتالي فبإمكان شعوب أن تحيا إلى الأبد في ظل الملك الإله، وتحت وطأة طغاة لا يقيمون وزنًا لمحكوميهم، وبإمكانهم أن يختنوا البنات ويمارسوا جرائم الشرف.. فهذه هي ثقافاتهم وهذا ما تمليه عليهم رؤاهم الخاصة للحياة!. ومع تغييب المعيار الغربي الوحيد، فقد تم تغييب أي معيار على الإطلاق.

كتب صحفي بريطاني يصر على أنه متعاطف مع العرب: "وما حاجة العراقيين إلى الديمقراطية. إنهم يحتاجون الكهرباء والماء". بمعنى آخر: نحن معفيون، وفق النسبية الثقافية، من مساءلة أنفسنا عما نعيشه من تخلف اقتصادي وتكنولوجي واجتماعي، وعما نشهده من غياب لأدنى حقوق الإنسان وقواعد المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير.. 

وما لنا وكل ذلك.. فنحن لسنا غربيين؟!