يقول مارتن هايدغر: "ليس هناك شعرٌ كما أنّه ليس هناك فكر إلاّ من خلال اغتراب جذري". كأنّ الشّعر – وقد نسقط ذلك على العمل الفني بشكل عام – حالة إنسانية تنشأ من خلال مواجهة الاغتراب الجذري. لا أدب ولا فن دون أن يكون نتيجة لهذه الحالة الاغترابية.

مارتن هايدغر: ليس هناك شعرٌ كما أنّه ليس هناك فكر إلاّ من خلال اغتراب جذري

عندما أنهيتُ من قراءة رواية الروائي الجزائري محمد بن جبار التي يحضر فيها هايدغر بقوة "هايدغر في المشفى" (دار بوهيميا، الجزائر 2018)، وجدتُ أنّها جسدت على نحو ذكي هذه المقولة الهايدغيرية؛ فبطل الرواية ناصر وهو روائي عانى من عاهات لغوية ومن سخرية المجتمع منه بسبب أنه أولًا كاتب رواية، وثانيًا بسبب أنه استقال من وظيفته الإدارية لأجل التفرغ لقراءة الكتب النحوية القديمة والهدف هو ترميم لغته العربية، يجد نفسه في مصحة للمجانين، وفي حقيقة الأمر أنّ هؤلاء المجانين ليسوا أكثر من أتباع هايدغر من جهة، وأتباع كارل بوبر من جهة أخرى، فنشأ بين الفريقين صراع شديد ودموي.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب أن تموت الفلسفة؟

منذ البداية، وضعت الرواية الفلسفة داخل فضاء المصحة، وهذا التأثيث السردي ولّد عندي جملة من الأسئلة: هل الفلسفة هي ضرب من المرض العقلي؟ أم أنّ الفلسفة بتعريف نيتشه هي علم الأعراض؟ ومن جهة أخرى، تحولت المصحة إلى فضاء أغرى ناصر بالكتابة، وبطرح أسئلة جذرية حول جوهر الكتابة ووظيفتها، خاصة وأنّ القانون الداخلي للمصحة يمنع على أيّ كان أن يطرح الأسئلة.

سنتعرّف إلى شخصية عواد، وهو شخصية كتومة وغامضة، يتعرّف ناصر على قصته من خلال مخطوط قدمه له، فيكتشف أن سبب تواجده في هذا المكان هو ارتكابه لجريمة قتل دفاعا عن شرف أسرته. إلاّ أنّ مشكلة عواد هي أكبر من مجرد إزالة نذل لا يستحق الحياة، بل لكونه كاتبًا، ومحط سخرية من طرف الجميع بمن فيهم زوجته.

يكتشف عواد في غمرة معركته غير المتكافئة مع أجهزة الدولة ومع الوعي المستلب للناس، أنّ الحياة تسير وفق منطق معكوس، وأنّ أكبر ضحايا هذا الواقع هم الكُتّاب، بل وأنّ الإرهابي الذي أباد بشرًا في العشرية السوداء أصبح صاحب عقارات وتجارة وسمعة بين الناس. هل الإرهاب أكثر رحمة من الكتابة؟

يكتشف ناصر عوالم المصحة، ينخرط في صفوف الهايدغريين، بعد أن قرأ كتاب نبيهم هايدغر "الكينونة والزمن"، لتتبلور لديه فكرة التغيير، والتغيير عنده لا يتم إلا بتحرير الذات من أسئلتها الكبرى، التي ينبغي مواجهتها. عكس عواد، الذي  بدا أكثر فهمًا للعبة السلطة، فهذه الأخيرة تعرف كيف تدير حروبها من بعيد، مستغلة حماسة الحمقى والأغبياء.

"هايدغر في المشفى" تلقي بالرواية داخل تخوم الفلسفة، على الرغم من صعوبة هذا الرهان

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب تعريف التفكيكية؟

"هايدغر في المشفى" تلقي بالرواية داخل تخوم الفلسفة، على الرغم من صعوبة هذا الرهان، خاصة وأنّ الرواية هي بحث في الشكل الفني، وليست معنية، مثل الفلسفة، بالسؤال الفلسفي الكبير. صحيح أنّ الرواية هي فن السؤال، وشخصياتها هي في الغالب من طبيعة إشكالية، تناقش أسئلة الوجود والمجتمع والفرد، وهي أسئلة فلسفية في جوهرها، أي أن الصعوبة تكمن في التوفيق بين صلابة الخطاب الفلسفي وبين شعرية وجمالية الفن الروائي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل للعقل حدود؟

"دعونا نتفلسفْ".. كيف سار عظماء الفكر عكس التيار