31-أكتوبر-2015

جنان داود/ سورية

يصعب على قارئ هاني الراهب الإفلات من القدرة التنبؤية التي ميزت أعماله. حتى أمكن القول، إنّه حقق انتصارًا، غير مردود، للكتابة داخل الوعي، كونها تحمل رؤىً استشرافية. إذ برزت الكتابة لدى أحد أهم المجربين في الرواية السورية على أنّها إعادة إخراج للتاريخ بصورة تعكس الأفق. على أنّها، تحليل روائي للمادة التاريخية، لا تصويرًا لها أو تقديمها تقديمًا سرديًا خالٍ من النقد. 

يقع القارئ في روايات هاني الراهب على الكثير من الإشارات المباشرة، بشكل مربك، لما يحصل في سورية اليوم

وربما لأجل هذا يقع القارئ أثناء قراءة روايات هاني الراهب، لا سيما "بلد واحد هو العالم" و "ألف ليلة وليلتان" و"الوباء" على الكثير من الإشارات المباشرة، بشكل مربك، لما يحصل في سورية اليوم.

تأخذ الحكاية في "بلد واحد هو العالم " النموذج التقدمي للثورات، علون صاحب الفكر الحر، من يجد في المساومة على أمر يومي بوابة لانهيار "الشعب". تقوده وطأة الإرادة بحياة شريفة، للسكن في حي شعبي، ينتظر الهدم بين شهر وآخر لصالح مشروع تجاري، ما يؤهل الأرضية، لنشوب ما يمكن الاصطلاح عليه بالثورة، طرفاها، "أم اللولو" التي تمثل البورجوازية الداعمة لمشروع الهدم، وفي الطرف الآخر، التحالف بين "المثقف التقدمي" و"الرعاع"، الذين هم أولاد أم عبود. الرافضين لمشروع الهدم كونه يهدد مأواهم في المخيم الفلسطيني، ليتضح الآن الشكل الذي، أخذته "الثورة" حيث اندفع "الرعاع" للقتال من أجل حقوقهم، وانقذف وراءهم "المثقف" ليغور معهم أيضًا في مستنقع واحد من الهزيمة. وشكلا "كيمياء سامة" تعتبر الفشل مدعاة للاحتفاء الخائب!

تعتبر "الوباء" أشهر أعمال هاني، وفي الوقت ذاته هي أكثر أعماله خصوصية في الحياة السورية، إذ اشتغل على قرابة مائة عام من تاريخ هذا البلد، وقدم تصوره الماركسي، للمجتمع، كيف تشكل، وكيف أقحم في آليات الخوف والتسلط والاستبداد، لينتج مجتمعًا وصوليًا ومنسحقًا، يعيش أفراده حياة عدمية.

تجرأ هاني، ذلك المثقف الفريد، على زراعة رؤية مستقبلية، نجدها مخيفة اليوم، أكثر من زمن صدور الرواية، أي في العالم 1981 كوننا فشلنا في تخطيها، ويبدو أنّنا نسير وفقًا لها: "مشكلتنا نحن الفلاحين كون القيم التي نشأنا عليها تتعارض مع قيم الطبقة المتوسطة التي اكتسبناها، لكننا تبنينا قيم الطبقتين في عملية تجاور وتوازٍ، ليس فيها صراع يوصل إلى تركيب جديد. لذلك نجد مستويين ومعيارين للسلوك والأخلاق. لكن هذه الحالة لن تدوم. أنا أتنبأ أن مائة سنة القادمة، أو خمسين سنة قادمة، ستكون عصر العنف. ضغط الدولة في العالم سيزداد، والخائفون سيخرجون من جلودهم ويصيرون مادة للعنف. العنف الشامل وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائيًا، ويعيدنا إلى وضع همجي، التفكك والانحلال، لكل قيمة وبنية وعلاقة".

في ألف ليلة وليلتان والتي تناول فيها الأزمنة العربية، والأزمات المتجددة من الصراعات السياسية على السلطة، الثورات، الاحتلال، الهزائم. قبل أن يصل في روايته "رسمت خطًا في الرمال" إلى تصور أكثر دقة، وهو مأزق الثقافة العربية المسيطرة، وقصورها على النمو إذ إنّها ثقافة عالقة في عصور سحيقة، ومن هنا تولد أزماتها السياسية بشكل، يبدو أنّه، لا نهائي؟

انطلق هاني الراهب من رواية "المهزومون"، لكنه لم يشأ، وربما لم يستطع، الخروج من فكرة الهزيمة

قدم هاني في روايته "ألف ليلة وليلتان" تصورًا شاملًا للحلول وجعل العدل والحرية والوحدة مقاييس يطرح تصوراته للنجاة على ضوئها، دون الخروج عن تصوره اليساري للمشكلة بحيث يعود ويذكر: "الفقراء لا يملكون شيئًا كقاعدة مادية للثورة. لكنهم يملكون العنف. التحليل الذي قدمه فانون للعلاقة بين الاستعمار والشعوب المضطهدة. سيصير بعد فترة قصيرة جدًا صحيحًا بالنسبة للعلاقة بين معظم شعوب العالم الثالث وأطقمها السياسية. ومثلما ناضل الجنس البشري للتخلص من الخرافة، سيناضل للخلاص من الحكومات".

ويقصد كتاب فانون "معذبو الأرض" والذي كتب سارتر مقدمته وأشار فيها إلى أنّ المستعمَر يعيد تشكيل نفسه، بالعنف، في حين مصير المستعمِر هو التحلل، لأنّ المستعمَرين يصيرون بشرًا بمقاتلته، وهذا هو لبّ الفكرة التي وضعها هاني مرآة لحال الشعوب والأنظمة.

انطلق هاني الراهب من رواية "المهزومون"، ولم يشأ وربما لم يستطع الخروج من فكرة الهزيمة، لقد كتب كلّ أعماله من واقعها ذاته، ما يُذكر برأي محمود درويش في كتابه "ذاكرة للنسيان" حول صعوبة فك الهوية عن هزيمتها. وبالتالي، هل يجوز القول عن كاتب مثل هاني الراهب إنّه كاتب منهزم؟ ألم يقل هو ذاته، الراديو هو من أعلن الهزيمة وبالتالي الراديو هو من هزم. والآن، هاني الراهب هو من تنبأ لنا بالهزيمة. وعليه، هو من هزم. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ضرورة سلامة كيلة.. براعة تخريب إشكالياتنا الرائجة

بعد عامٍ على رحيله.. استعادة ضرورية لسلامة كيلة