02-أكتوبر-2018

سلامة كيلة

قليلون من لم يصابوا بحمى الأنا والـ"كنا" وهذه قوالبنا الحاضرة وتلك "قناعاتنا" الخشبية من مجايلي الثورة الفلسطينية، مع وقف التنفيذ حاليًا، وموجة ماركسية الستينيات والسبعينيات عربيًا. الرفيق والصديق الراحل قبل ساعات سلامة كيلة، من بين هذا القليل، غير أنه من قليل أقل تجاوز مساحات الانشغال الفلسطينية، بل والعربية، دون إغفالهما، إلى أفق العمالية والعالمية واليسارية المنحازة إنسانيًا ونقديًا فوق طائفة الحزب عابرًا لمشكلات الثورة ومصائب التنظيم الراهنة، مسائلًا إمكانات التخريب الثوري في عالم يعمه الخراب. 

 لا مساحة لنسيان مثقف مناضل ومناضل مثقف من نوع سلامة كيلة وأهميته أمام فداحة المآلات العربية الراهنة، التي تنبأ لصيروراتها ببراعة جرت عليه الالتزام النضالي والكتابة الجدية

بالتحلل من عقد الأيدولوجيا، دون التنصل منها بالضرورة، وبالحرص على التراث والمستقبل معًا، رفقة الوقوف على راهن العرب ومسألة الأمة وتناقضاتها الفجة في الأفهام المتأدلجة على حساب واقعها، أسرف جهدًا جديًا ومتجددًا باستمرار، دون أن تطاله زهرة الكلل الصفراء. هنيئًا لسلامة كيلة بتلك الروح الواعدة، الروح التي لم تسعفها إغماءات هايدغر، لكن راقتها وقفة جاك دريدا التفكيكية معها/ضدها، رغم تحفظاته المهذبة غير المغالية على تراث النقل والنحل برمته، وانزعاجه من تأليه المركزية الإمبريالية. 

اقرأ/ي أيضًا: سلامة كيلة.. هكذا هي "التراجيديا السورية"

سلامة كيلة ضرورة، أي منجزه الفكري وممارسته النضالية. قد يصار إلى فهم هذه الدعوة إلى ضروريته من باب الانتحاب أمام مفاجأة الموت. لكن الموت بمغالبته الحتمية لم يكن ليفاجئ عقلًا انشغل بنقد "الماركسية الرائجة" في أحد أكثر عناوينه أناقة، ولا أن يباغت المنشغل بـ" إشكالية الحركة القومية العربية" بقدر ما باغت مهماته النقدية التي لم يقتنع بأنها أنجزت يومًا ورآها سيرورة متفاعلة.

تميز الراحل سلامة كيلة بإعمال النقد بكل ما تتطلب العملية من جدلية وكشف للذات وفضح للأفكار بقلبها ضد نفسها، دون أن يكون الانشغال النقدي عذرًا استنكافيًا للمناضل الذي لم تعتقه أثمان مواقفه وصوغها في حلبة الممارسة الفعالة. لا المنفى عن فلسطين، ولا التغييب في سجون البعث ترك للاستنكاف أن يتسلل إلى الناقد في روحه ولا المناضل في عقله. لم يكن سلامة كيلة غريبًا عن تفاصيل التفاصيل عربيًا وفلسطينيًا وماركسيًا، كان مستعدًا لرسم الصورة الكبيرة باستمرار حتى في أحاديثه الودية مع من هم بعمر أحفاده. بعيدًا عن أبواب الاستعراض الرواقي لما يعتمل عقله، قريبًا جدًا من القناعة بأن الأفكار تستحيل وقائع عندما تعتمل في وعي الجماهير. 

سيكون من المفهوم بيسر مفرط التعرض لابتسامة سلامة كيلة المتواضعة والجادة في وجه كل الخيبات العربية والفلسطينية والماركسية. إذ لم تكن تفاحة كيلة بعيدة عن شجرة أنتونيو غرامشي أبدًا، عرف كيف للعقل أن يتشاءم ويبقى القلب على الأمل بكل رشاقة. هذا من بين القواسم الدقيقة التي يعثر عليها ممطوطة بإفهام في أكداس المؤلفات والمقالات والمبادرات التي قدمها في مسيرته النضالية. 

حارب سلامة كيلة فكريًا وعمليًا على جبهات شرسة متشابكة ومتنوعة. لم تفته تناقضات التراث العربي والإسلامي وأصول الملكية والفرز الطبقي فيه بقدر انتباهه لفوضى الأفكار وتقابلية "الاشتراكية أو البربرية" في ضوء "بارادوكس" المادية والمثالية في عالم تنهبه الإمبريالية. 

تميز  سلامة كيلة بإعمال النقد بكل ما تتطلب العملية من جدلية وكشف للذات وفضح للأفكار بقلبها ضد نفسها، دون أن يكون الانشغال النقدي عذرًا استنكافيًا للمناضل الذي لم تعتقه أثمان مواقفه

قبل أشهر، وكما دائمًا، تصاعد التشويش والهجوم "المراهقاتي" ضد صاحب "أطروحات من أجل ماركسية مناضلة"، من طرف زمر التشبيح والتصفيق الرخيص للاستبداد ظالمًا أو ظالمًا. كان هذا على خلفية تقدمه بمبادرة لإعادة التفكير وتجديده في مسألة الدولة الواحدة فلسطينيًا. فكان الرفيق سلامة كيلة ينظر إلى مفهوم الدولة الواحدة بإدراك متكامل لإشكالاته لكن في الوقت عينه بفهم متعدد الزوايا للموضوع ضمن الضرورة النضالية. اللافت في الأمر، ليس الهجوم على شخص سلامة كيلة ومحاولة النيل البائسة من سمعته النضالية فقط، بل أن الأشخاص بعينهم الذين شعوذوا لمثل هذه الهجمة لا يملكون بضع نقاط مئوية من الرصيد المعرفي الذي قدمه كيلة، ناهيك عن براءتهم من أعشار الأثمان النضالية التي تكبدها الراحل طوال مسيرته/صعبة التكرار، مع الحياة. الجميل في الأمر أن سلامة كيلة لم يعتد أن يلقي بالًا لمسرحيات مشابهة، بل كان دومًا يعود من جديد لإنقاذ "الفكرة" والتركيز في نقدها ونقد نقدها عوضًا عن تعويمها أو محاولة القفز إلى مساحات الشخصنة الرديئة.

على الرغم من صعوبة القول إن النقاش أو العمل نحو مشروع حل دولةٍ واحدةٍ ديمقراطيةٍ علمانيةٍ تكون لجميع من هو مواطنٌ في فلسطين من الموجودات في فلسطين اليوم. إلا أن كيلة كان يرى التفكير في هذا الباب، بل والعمل أيضًا، مهمة نقدية وممارساتية معًا لالتقاط التاريخ من موقع عضوي بريء من الاستعراض والترف البحثي، أي تفعيل الحركات بينما العين على المواقع وفق الاستعارة الغرامشوية. كان يصعب على الراحل عدم التقدم بخطوة نحو المستقبل، شأنه بذلك شأن عراقة الأسماء التي تطرقت بكل جدية لمسألة الدولة الواحدة ومركزيتها، جورج حبش وعزمي بشارة مثلًا. لذلك من باب الاقتناع الممارساتي أكثر منه من باب التعزية الذاتية، سيبقى تراث سلامة كيلة ناظرًا بعين الواقعي الساخر والمنظر العملي للراهن العربي وضروراته بصرف النظر عن تقليعات مهرجي الاستبداد وصبيانه.

في باب الاعتذار، الاشتياق، الحزن والحنين للصحبة الطيبة سيحضر سلامة كيلة دومًا. إذ لا مساحة لنسيان مثقف مناضل ومناضل مثقف بهذا الحجم والأهمية أمام فداحة المآلات العربية الراهنة، التي تنبأ لصيروراتها ببراعة جرت عليه الالتزام النضالي والكتابة الجدية، والوقوف وقفة مناضل شرس أكثر من أي دور أخر، أكثر مما سمح للبؤس أن يتسلل إلى معطفه النقدي. 

قبل أن يبدأ حديث السلاح والتسليح في سوريا، قال الرفيق سلامة كيلة، "مع هذا النظام ستكون حمام دم بكل الحالات يا صديقي، وكلي أمل أن يتبقى شيء من الثورة". وعن مصر كان مبكرًا في القول أن "الحرس القديم ما زال هنا يا صاحبي". ووسط كل أشباح ومسوخ الواقع العربي الشاخصين هنا، ستبقى هنا أيضًا صديقي لكن بنكهة وموقف مغايرين، لم تقبل الهزيمة في حياتك، ولن يكون إرثك عرضة لها، بعيدًا عن الغيبيات والمواساة، ببساطة وببراعة لأنك لم تكن تخاف النقد ونقد النقد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لماذا لم تساهم النقابات السورية في الثورة؟.. سلامة كيلة مقدمًا 3 إجابات

نكون الأغلبية.. أو لا نكون!