01-نوفمبر-2023
Jabaliya massacre

"هل رأيت؟ 

نعم.. 

هل ستكتب ما رأيت؟.. نعم"  (جان جينيه، أربع ساعات في شاتيلا)

 

كان هذا جان جينيه، حين ساقته المصادفة البحتة ليكون في بيروت في أيلول/سبتمبر 1982، ويشهد مجزرة صبرا وشاتيلا. سأل الرجل نفسه سؤالًا تلقائيًا: "هل رأيت"؟ وكأنه يخبرنا في نصه عن المجزرة بأن كثيرين سواه رأوا بأعينهم مثل ما رأى، لكنّهم فضّلوا إشاحة وجوههم سريعًا، للتنصّل ربما من العار، أو- لا سمح الله- من الغضب. أمّا السؤال الطبيعي التالي لسؤال الرؤية، فهو سؤال الكتابة/الشهود، وما تعنيه من مسؤولية التعاطف والتضامن، وما قد يتبعها من تحوّل كامل في الوعي، واكتشاف جديد للذات، عبر بوابة التأكّد من جديد من هويّة القاتل، واستعادة الهويّة عبر التيقّن من الحقّ في مقاومته.

كنت في المكتب ساعة المجزرة. بعيدًا عن شاشة البث المباشر. قفز أحد الزملاء من كرسيّه فجأة. "مجزرة جديدة في جباليا"، أخبرنا وهو قائم أمام شاشته الصغيرة التي تنقل الأخبار العاجلة. بدا جادًا، فهو سوريّ ويعرف معنى المجزرة جيدًا، وفهمنا رغم الضجيج الذي تناسيناه فجأة من حولنا، أنّه لا يتحدّث عن مجزرة "جديدة"، بل عن مجزرة كبرى غير مسبوقة منذ بدء هذه الحرب على غزّة. تتالت الأرقام أمامنا: 50، 70، 100، 400 بين شهيد وجريح. جثث متكدّسة ومحروقة، أشلاء رمادية منتفخة، بقايا حياة، يبحث عنها بعض الأهالي والجيران الذين هرعوا من أحياء قريبة يحفرون الأرض بأيديهم وبما توفر من أدوات بسيطة، وفي الخلفية أصوات العويل والتفجّع، والتكبير والتحسبن.

طفل فلسطيني
سيدة فلسطينية تتفجع على الشهداء
شهيد فلسطيني تحت الركام
شهيد فلسطيني تحت الركام

أصابنا الذهول. نظرنا في وجوه بعضنا، تبعثرت الألسنة بكلام بدا غير مفهوم وغير لائق وفي غير مكانه ولا وقته، وشعرنا جميعًا وكأننا نحاول أن ندفع عن أنفسنا تهمة ونحن قد تقمّصناها فعلًا: كيف أننا نقف، سليمين، بوجوه واجمة غير قادرين على البكاء، في مكان آمن، نشاهد الخبر الفاجع ونحن نكتم صوت الضحايا على الشاشة، ونستعدّ للمغادرة، ومتابعة "عيش سعيدٍ في الحرب". غادرت أنا، تابعت بقيّة النشرة على راديو السيارة، سمعت الطبيب النرويجي مادس غيلبرت يتحدّث إلى المذيعة بنبرة غاضبة، يناشد بحرقة من أجل إنقاذ الفلسطينيين في غزّة، ويدعو عبثًا إلى تجربة أية وسيلة ضغط لفتح المعابر، وحماية المستشفيات وإنعاشها بمن فيها. قال بالحرف الواحد: ربما يتوقف القصف قليلًا لو توقف تصدير النفط والغاز إلى الولايات المتحدة. تلبّس الطبيب لبوسَنا ونطق بلساننا ولهجتنا، وهو يعلم مثلنا تمامًا، أن ذلك لن يكون.

فالمجازر تتكرّر، من دير ياسين وكفر قاسم، حتى مجزرة جباليا المعلنة، ينفّذها قتلة، ويشهد عليها ويتواطأ على حصول أمثالها قتلة، يتحصّنون بالزيّ العسكري الرسميّ ومؤسّسته التي تعلم أنْ ليس ثمّة قاتل ما دام يطيع الأوامر، يمارس "الحقّ الأخلاقي" في الدفاع عن الذات "ضد البربريين"، ويحافظ على أسطورة "طهارة السلاح" الصهيوني. هذه هي الذريعة التي تجعل القتل الإسرائيلي العامّ عاديًا بل وضروريًا لا سبيل إلى وقفه ولا منطق في مساءلته، ما دام ضحاياه من عالم آخر، وما دامت آلة القتل الحديثة تحرص على أن تبلغ كثرتهم حدًّا يصعب معه تذكّرهم وسرد أسمائهم وتفحص وجوههم والحسرة على كل تلك الحياة التي حرموا منها.

قتل المئات في مخيّم جباليا، قبيل غروب شمس التاسع والعشرين من أكتوبر، لا لسبب واضح سوى أنّه لم يعد من الأهمّية بمكان عدم قتلهم وتجربة ترسانة الموت عليهم. هذه فعلة "تلاميذ مجتهدين" كما وصفتهم الشاعرة العبرية نعمة شيمر، و"يتقنون الدرس". يقول متحدث باسم الجيش أنّ الهجوم حصل لاشتباه وجود أحد قادة حماس في المكان، لكنّ هذا لا يغيّر شيئًا من طبيعة المجزرة وحقيقة أنها حصلت لاعتبار القاتل لحصانته وهو في زيّه العسكري، ولاعتبار لذلك الفارقِ الشاسع في نظره والراسخ في روحه المتوحّشة بين قيمة حياة الفلسطينيين بالنسبة إلى حياته، وبما يسمح له بعد الجريمة أن يعود إلى حياته الرغيدة العاديّة، مرتاحًا إلى سعادة والدته/دولته التي آب إليها فخورًا بعد الحرب، تمامًا مثلما قالها يوناثان غيفن: "عليك أن تقتل/كي تعود وتقصّ على والدتك/أشياء كثيرة وجميلة". 

في العام 1994، وقعت مذبحة الحرم الإبراهيمي، وهي مثل غيرها من المجازر العديدة، بندٌ بارز في السيرة الذاتية للفلسطينيين وقتلتهم في آن معًا، لا الفلسطينيون ينسونها ولا المحتلّ يكفّ عن التبجّح بها وتكرارها وتوسيع نطاقها. دخل السفاح باروخ غولدشتاين الحرم الإبراهيمي مطلع فجر 25 شباط/فبراير، وبصليات مرعبة من الرصاص قتل 30 مصليًا داخل المسجد وهم سجود. في القاعة المجاورة، كان بضعة مصلين يهود يتلون تراتيلهم، وحين سمعوا أصوات الرصاص والصراخ، خرجوا ليروا ما يحصل، إلا أنّ عسكريًا إسرائيليًا مسؤولًا عن المكان أتاهم سريعًا ونهرهم قائلًا: "عودوا إلى صلاتكم، وتابعوا أعمالكم كأن أمرًا لم يكن". فعاد المصلون كما تنقل الشهادات العديدة إلى صلاتهم وتراتيلهم، على وقع موت الفلسطينيين بالمصلّى وما حوله، وكأن شهود ذلك طقسٌ متمّم ونافلةٌ سانحة. كان باروخ قد نشر قبل المجزرة ببضع سنوات رسالة عبر صفحات نيويورك تايمز، يطالب فيها بطرد العرب جميعًا من إسرائيل (الكبرى)، ويحذّر من معدلات الخصوبة المرتفعة بين العرب مقارنة باليهود، وأن ذلك سيجعل منهم أغلبيّة على الأرض بعد عقود قليلة، وأنّ على الإسرائيليين أن يختاروا بين طردهم أو العيش كأقليّة في دولة لا يمكن بتلك التركيبة السكانية أن تكون "يهودية". لم تتوقف المجازر، ولم تنته الرسائل ولا المقالات الباروخيّة التي تمهّد لها وتبرّرها في الإعلام الأمريكي السائد وألسنة الناطقين باسم البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي، وبتنا جميعًا خارج غزّة شهودًا على أخدودٍ حديث في جباليا، سيكون هويّة جديدة لعصرنا، لن تمحى إلى الأبد. 

بذهول مخجل، وأنا أتابع حساب المصوّر الفلسطيني معتز عزايزة وتوثيقه للمجزرة في جباليا، وأتنقّل من صورة إلى أخرى وأقفز من مقطع إلى الذي يليه، عاودني سؤال جينيه حين ألفى نفسه يتجوّل في حقل مزروع بالجثث في صبرا وشاتيلا: "ترى، هل أصبحت مجنونًا؟ هذا المخيّم الذي أبصرته أنقاضًا على رؤوس من كانوا فيه، أو ظننت أني أبصرته، هل حصل كل هذا حقًا؟.. هل حصل كل هذا حقًا؟".