27-يناير-2016

(Getty)

*إلى بشير عزام وطفله

في العام 2014 وخلال بطولة كأس العالم، ومع الحمّى التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والتي تطورت حتى صارت لوثةً حقيقية، كتب الصديق الروائي والكاتب اللبناني بشير عزام، وهو المشجع للمنتخب البرازيلي ونادي برشلونة، على صفحته الشخصية على فيسبوك: (وسألني ابني: من هداف كأس العالم حتى الآن: فالتزمت جانب الصدق وقلت: نيمار يا بابا) منذ بدايات ظهوره في العام 2010 مع فريق سانتوس في الدوري البرازيلي، أنبأ الفتى نيمار العالم بأن موهبةً جديدةً قادمة بقوة من بلاد البنّ والسامبا لتقف وسط دائرة الضوء العالمية.

إذ أعطى ظهوره أملًا للكرة العالمية بأن البرازيل ما تزال تستطيع إنجاب المواهب الفذة، بعد أن كانت الشكوك في ذلك قد تسرّبت وقتها إلى نفوس كل المراقبين، مع أفول جيلٍ كامل من اللاعبين العباقرة، ابتداءً من كأس العالم 2002، وجيل الـ 4R (رونالدو، ريفالدو، رونالدينو، وروبيرتو كارلوس)، الذي تقلّص في العام 2006، وانتهى بعدها مباشرةً، ليبقى الساحر رونالدينو وحيدًا يحاول الدفاع عن هيبة الكرة البرازيلية وتاريخها العالمي، على الرغم من بزوغ نجم مواطنه كاكا وحصوله على جائزة أفضل لاعب في العالم.

بعد 2006 بقي الساحر رونالدينو وحيدًا يحاول الدفاع عن هيبة الكرة البرازيلية وتاريخها العالمي

أعاد رونالدينو في سنواتِ تألقه، كرة القدم إلى أصحابها الأساسيين، الذين يلعبون لأجل اللعب والفرجة، كما أعادها إلى الأطفال أيضًا. واستطاع أن يخلق حالةً من الشغف بلاعبٍ كانت قد انتهت مع النهاية غير الحميدة للأسطورة الأرجنتينية دييغو مارادونا. مع تعابير وجه طفولية وبريئة حزنًا أو فرحًا، وتقليعاتٍ في الشكل، سواء من خلال الوشوم، أو التلاعب بشكل وطول الشَّعر. الأمور التي جعلته يحتلّ المرتبة الأولى مكانةً وبدون منازع في العالم. لكنّ أكثر ما ميّز "غاوتشو"، هو الإحساس الذي يمنحه للاعبين (من زملاء وخصوم)، وللجمهور على حدّ سواء، بأن العالم لم يخلُ بعد من الذين يلعبون لأجل الاستمتاع والإمتاع.

لا سيّما أن هذه الميزة كانت شبه مفقودة بالشكل ذاك في منتخب البرازيل منذ عام 1986 وحتى العام 2002 (وهو عام كأس العالم الأول الذي يخوضه رونالدينو). حيث إنّه، وجريًا على قاعدة تقول إن استقراء مستوى أي منتخب في العالم، يحدّد عبر بطولة كأس العالم لا غير، فإن المتابعين عن كثب، يعرفون أن منتخب البرازيل عام 1990 في إيطاليا لم يحوِ أسماء ذات مهارات استثنائية، رغم محاولة التسويق لموهبة كاريكا.

حتّى في العام 1994، وهو العام الذي قاد فيه كارلوس ألبيرتو باريرا منتخب السامبا إلى رفع كأس البطولة في بلاد العمّ سام، فإن المنتخب الذي أحرز اللقب، أحرزه مع جيلٍ يتميّز بالانضباط والجماعية الأوروبية أكثر من المهارة الفنية والفردية البرازيلية، وبصرف النظر عن تخليد أسماء كروماريو وبيبيتو، إلا أنهما كانا يجسّدان ما ستؤول إليه كرة القدم بعد ذلك مباشرةً، أي الانضباط واللعب وفق خريطة لا تتيح الفرصة لنيل المنتخبات بطولاتها بفضل نجم أوحد. (والحديث هنا، لا يبتغي الإسفاف من نمط كرويّ لحساب الآخر، بقدر ما هو محاولة للتمييز بين النمطين). الأمر الذي أكدته بطولة العالم في فرنسا بعد ذلك بأربعة أعوام، حيث فشل المنتخب البرازيلي الذي كان يضمّ الظاهرة رونالدو، والذي يعتبر واحدًا من أفضل رؤوس الحربة في تاريخ كرة القدم، في أن يحرز اللقب، بل خسر بإذلالٍ في النهائي أمام فرنسا زين الدين زيدان وفابيان بارتيز وليليان تورام وكريستوف دوغاري وديدييه ديشامب ولوران بلان.

ولم يكن ذكر الأسماء الفرنسية السابقة عَبَثًا، أو نكرانًا لنجومية زيدان؛ إنما لمساهمتها الفاعلة في وصول الديوك إلى اللقب، حيث كان على سبيل المثال لا الحصر هدف لوران بلان القاتل في مرمى الحارس الباراغوياني الفذ خوسيه لويس تشيلافيرت كفيلًا بإيصال فرنسا إلى الربع نهائي، وكذا كان الحال مع هدفي ليليان تورام في مرمى كرواتيا داڤور سوكر المتميزة آنذاك. استمرّ انقطاع الظاهرة المهارية التي تلعب في أكثر من مركز عن منتخب السامبا، حتى ظهور رونالدينو كما ذكرنا. ولكنّ البرازيلي المبدع لم يدم عطاؤه الاستثنائي في ملاعب كرة القدم، حيث انتهت سنوات ذروته مع نهاية حياته الكروية في نادي الإقليم الكاتالوني برشلونة.

إذا كانت الكرة البرازيلية تعاني من فقدان اللاعب الظاهرة فهي تعاني من فقدان المؤسسة الظاهرة

وإذا كانت الكرة البرازيلية تعاني من فقدان اللاعب الظاهرة، فهي وبالتوازي تعاني من فقدان المؤسسة الظاهرة، أي أن البرازيل تاريخيًا لم يكن منتخب اللاعب الوحيد، ومن يتذكر منتخب السحر الخالص عام ٨٢ يعرف ذلك جيدًا، والحال ذاته مع منتخبات 1958 أو حتى 1970 حيث في الأول كان ظهور الجوهرة السوداء بيليه، وفي الثاني كان أفوله، وفي بطولتي العامين لم يكن الرجل وحيدًا. تعيش الكرة البرازيلية اليوم واحدةً من أسوأ ظروفها في التاريخ، هي التي ستكون في بطولة موسكو بعد عامين قد قضت 16 سنة منذ حصولها آخر لقبٍ عالميّ، وعلى الرغم من أنها تاريخيًا قضت أكثر من ذلك بلا كأس عالم (1970-1994)، إلا أنها في تلك المرحلة كانت قادرة على إنجاب منتخبٍ مثل منتخب الـ 82 المذهل. المشكلة اليوم في كرة القدم الحديثة، حيث أنها باتت أقل متعة وشغفًا من ذي قبل، لحساب اللعب بالورقة والقلم وبرودة التحليل والتركيب.

أما برازيليًا، فإن المشكلة مكمنها فساد مؤسسة كرة القدم في البلاد، حيث بات -وبشكلٍ طبيعيّ ومفهوم- إغراء رأس المال الأوروبي والعالمي للاعبي كرة القدم، دافعًا أساسيًّا للرحيل لدى هؤلاء اللاعبين، القادمين من أحياء فقيرة ومهمشة، وليس لديهم سوى حلمهم بأن يعيشوا حياة اللاعبين الأباطرة الذين يشاهدونهم على الشاشات، علمًا أنهم أقل منهم موهبة. وبات الولاء للنادي أكبر بكثير من الولاء للمنتخب، إذ إننا وعلى سبيل المثال فقط، لم نكن لنشاهد ميسي يلعب كرة القدم بالشكل الذي رأيناه خلال عشر سنوات، لولا أن النادي الكاتلوني استطاع علاجه والاهتمام به، إلى أن وصل إلى ما هو عليه، فكيف لا ينتمي اللاعب لنادٍ كهذا؟!


في ظل كل هذه المعطيات، يبدو في وجود لاعبٍ مثل نيمار، بصيص أمل للكرة الممتعة في العالم. فالفتى الذي اعتقد البعض أنه سيذوب في بوتقة ميسي مع برشلونة، بات غيابه عن مباريات فريقه أثقل بكثير من غياب زميله الأرجنتيني الأسطورة. شاهدنا ذلك تحديدًا مع بدايات الموسم الحالي وغياب ميسي لشهرين عن الفريق، حيث تعزز الأداء الجماعي، وبات كل لاعبٍ يؤمن بتضاعف فرصه في البروز وهز شباك الخصوم، بدل أن يلعب دور الممول للبرغوث وحسب. وعلى الرغم من أن تلك الدكتاتورية لم يفرضها ميسي، إنما فرضتها سنواتٌ مذهلة له مع النادي حقق خلالها كل ما يمكن تحقيقه مع نادٍ في العالم، وفرضها مدربون وجماهير وإدارة، إلا أنها تبقى دكتاتورية، وهي ليست حميدةً في أي مجال.

يمتلك نيمار صفة القائد للفريق الذي يلعب في صفوفه، سواء كان في المنتخب أو في النادي في غياب ميسي. وبتنا نشاهدُه محركًا لنفسه وزملائه بخفّة لا يمتلكها لاعبٌ في العالم اليوم، ومهارةٍ يساعدها جسدٌ مطواعٌ وسنّ صغير يجعل الفتى أكثر قابلية للتعلم، ناهيكَ عن جوّ المرح الذي يشيعه في المكان، إن كان في ملاعب التدريب والحياة الخاصة أو في المباريات الرسمية، يُضافُ إليها جميعها تميّزًا في تقليعات الشعر والوشوم وخلق كلّ ما هو مفاجئ، على مستوى الشكل والأداء في آن.

وإذا كان من أمرٍ محسوم، فإنه المستقبل الذي تقول إحداثياته إن نيمار هو مستقبل النادي الكاتلوني، وإنه يستطيع خلال السنوات الأربع القادمة أن يحتلّ المرتبة الأولى في قلوب عشاق الفريق وربما يتربع على عرش الكرة الذهبية أيضًا ولأكثر من موسم. وبالتوازي فإنه إذا كان من خشيةٍ فإن منبعها هو انتقال نيمار المحتمل من النادي الذي قد يجعله قائدًا له ولأحلامه، إلى نادٍ يصير فيه رقمًا من أرقامه وورقةً من دفتر شيكاته ليس إلا. ولكنّك عزيزي القارئ، وعلى أي حال، تستطيع إذا ما سألك أحدهم: من هو اللاعب الأكثر إمتاعًا وإبهارًا في العالم هذه الأيام؟! أن تجيب بلا تردد: "نيمار يا بابا... نيمار".

ونعدك بأن صديقنا بشير عزام، لن يقاضيك لسرقة الملكية الفكرية، بل سيبتسم.

اقرأ/ي أيضًا:
ويبقى زين الدين زيدان أسطورة فرنسا...
إنه الشغف!