24-مايو-2023
نيل غايمان

الروائي نيل جايمان

نيل جايمان روائي إنجليزي له روايات عديدة منها: "آلهة أمريكية" و"كتاب المقبرة".


حياتي؟ صدِّقني، لستَ تريد أن تعرف شيئًا عن حياتي. لكن حلقي جافٌّ كالصَّحراء بحقِّ المسيح! شراب؟ حسن، ما دامَ على حسابك. اليوم حارٌّ حقًّا. لِمَ لا؟ شرابٌ صغير إذًا. بيرة ربَّما، وبعدها قليل من الويسكي. من الجميل أن تشرب في الأيَّام الحارَّة. مشكلة الشَّراب الوحيدة أنه يجعلني أتذكَّرُ، وأنا لا أريدُ أن أتذكَّر. خُذ أمِّي على سبيل المثال، امرأة لم أعرفها قطُّ بوصفها امرأةً، لكني شاهدتُ صُورًا لها من قبل العمليَّة. قالت إنني في حاجةٍ إلى أب، بما أنَّ أبي تركَها بعد أن استعادَ بصره (بسبب خبطةٍ على الرأس من قطةٍ بورميَّة وثبَت من نافذة شقَّةٍ في الطَّابق الثَّلاثين، لتحطَّ بمعجزةٍ ما على البُقعة الصَّحيحة تمامًا التي تكفَّلت بإعادة بصره، قبل أن تقفز إلى الرَّصيف دون أن يمسَّها أذى، مُثبتةً صحَّة ما يقولونه عن هبوط القطط على أقدامها دومًا)، زاعمًا أنه حسبَ نفسه تزوَّج أختها التَّوأم التي لا تُشبِهها في شيء، وإن تحلَّت -بإعجاز الوراثة- بالصَّوت نفسه، وعليه حكمَ له القاضي بالطَّلاق بعد أن جرَّب أن يُغلق عينيْه ولم يستطِع التَّفرقة بين صوتَي المرأتيْن.

هكذا تحرَّر أبي ورحلَ، وفي الطَّريق من المحكمة هوى على رأسه حُطام من السَّماء، قال بعضهم لاحقًا إنه فضلات بشريَّة سقطَت من طائرةٍ مارَّة، وإن أسفرت التَّحليلات الكيميائيَّة عن احتوائها على موادٍّ غير معروفة للعلم، وقالت الصُّحف إنَّ الفضلات احتوَت على بروتينات من الفضاء، لكن سرعان ما عُتِّمَ على هذا الكلام.

هكذا أخذوا جثَّة أبي ليحفظوها في مكانٍ آمن، وأعطتنا الحكومة إيصالًا اختفى المكتوب عليه بعد أسبوع. أعتقدُ أن لهذا علاقةً بالحبر، على أنَّ تلك قصَّة أخرى. أعلنَت أمي أني محتاجٌ إلى رجلٍ في البيت، وأضافَت أنها ستكون هذا الرَّجل، وعليه عقدَت اتِّفاقًا مع طبيبٍ ما وافقَ على إجراء عمليَّة تغيير الجنس لها مجانًا بعد فوزهما بمسابقة التانجو المائي. في أثناء نشأتي خاطبتها بـ"أبي" دون أن أعي شيئًا من كلِّ هذا.

بعد ذلك لم يَحدُث لي شيء مثير للاهتمام. شرابٌ آخر؟ حسن، كي لا أتركك تشرب وحدك فقط. بيرة أخرى، ولا تنسَ الويسكي، دَبِل من فضلك. إنني لا أشربُ عادةً، لكن اليوم حارٌّ حقًّا، وحتى مَن لا يشربون... تفهم ما أعنيه.

في يومٍ كهذا ذابَت زوجتي. لقد قرأتُ عن القوم الذين يشتعلون فجأةً. اسمه الاحتراق الذَّاتي. التقيتُ ماري لُو -هذا هو اسم زوجتي- يوم أفاقَت من غيبوبتها. سبعون عامًا قضَتها نائمةً ولم تتقدَّم بها السِّنُّ يومًا. مخيفٌ حقًّا ما يُمكن أن يفعله بك البرق، وكلُّ هؤلاء النَّاس على متن الغواصة تجمَّدوا في الزَّمن تمامًا كماري لُو. بعد زواجنا اعتادَت الذَّهاب لزيارتهم والجلوس بجوارهم ومشاهدتهم وهُم نائمون. كنتُ أقودُ شاحنةً في تلك الأيام، والحياة لا بأس بها، واستطاعَت زوجتي التَّكيُّف على مسألة العقود السَّبعة التي فاتَتها. في ظنِّي، لولا أنَّ غسَّالة الأطباق مسكونةٌ لكانت زوجتي بيننا اليوم. لقد افترسَت الغسَّالة عقلها، وطارد الأرواح الشرِّيرة الوحيد الذي استطعنا المجيء به اتَّضح أنه قزمٌ وليس قسًّا على الإطلاق. لم يحمل إلَّا شمعةً وجرسًا وكتابًا. دعك من أنه يوم ذابَت زوجتي في فِراشنا وتحوَّلت إلى سائل، سُرقَت شاحنتي أيضًا بمصادفةٍ ما. عندها قرَّرتُ أن أغادر الولايات وأجوب العالم، ومنذ ذلك الحين وحياتي راكدةٌ كمياه المجاري، اللهم إلَّا... لكن لا، إن عقلي خاوٍ تمامًا. لقد ابتلعَت الحرارة اللَّعينة ذاكرتي. شرابٌ آخر؟ حسن، بالتأكيد...