30-سبتمبر-2018

The New Yorker

نشرت الترجمة الإنجليزية لقصة "The Wind Cave" للكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي  في مجلة نيويوركر الأمريكية مطلع الشهر الجاري وقد نقلها عن اليابانية المترجم فيليب غابرييل. وفيما يلي الترجمة العربية للقصة. 


عندما كنتُ في الخامسة عشرة ماتت أختي الصغيرة. حدث ذلك بغتةً. كانت في الثانية عشرة في سنتها الأولى في المدرسة الثانوية الدنيا. لقد وُلدت بمشكلة خِلقية في القلب، ولكنها منذ آخر عملية جراحية أُجريت لها عندما كانت في الصفوف العليا من المدرسة الابتدائية لم تبدو عليها أيَّة أعراض أخرى، فاطمئنت عائلتي متشبِّثة بأمل واهن بأنَّ حياتها ستمضي من دون حوادث. ولكن، في مايو من ذلك العام، أصبح نبض قلبها غير منتظم على نحو أكبر. كان الأمر يسوء خصوصًا عندما تستلقي في الفراش، ولم يكن بوسعها النوم ليالي كثيرة. خضعت للفحص في مشفى الجامعة، ولكن مهما كانت الفحوص دقيقة لم يستطع الأطباء تحديد التغيّر بدقة في حالتها. وقد كانت المشكلة الأساسية تُحلّ ظاهريًّا بالعمليات الجراحية، وكان الأطباء يحارون في أمرها.

"تجنّبي التمارين المجهدة واتبعي روتينًا منتظمًا وستستقر الأوضاع قريبًا." قال طبيبها. لعلَّ ذلك كان كلّ ما بوسعه قوله، وكتب لها عدة وصفات طبية.

بيْد أنَّ عدم انتظام نبض قلبها لم يستقر. عندما كنت أجلس إلى مائدة الطعام في الجهة المقابلة لها، كنت كثيرًا ما أنظر إلى صدرها وأتخيّل القلب داخله. كان نهداها قد بدآ بالنموِّ بدرجة ملحوظة. ومع ذلك، داخل ذلك الصدر كان قلب أختي مختلّا. وحتى الاختصاصي لم يتمكّن من تحديد الخلل. تلك الحقيقة وحدها كانت تسبب الاضطراب في عقلي. لقد عشتُ مراهقتي في حالة من القلق والخوف من أنني قد أفقد أختي الصغيرة في أيَّة لحظة.

أخبرني والداي أن أعتني بها لأنَّ جسدها كان ضعيفًا جدًّا. وعندما كنّا ندرس في المدرسة الابتدائية نفسها، كنت دائمًا ما أراقبها. وإن دعت الحاجة فقد كنت مستعدا للمخاطرة بحياتي لحمايتها وحماية قلبها الصغير. بيْد أنَّ الفرصة لم تكشف عن نفسها قطّ.

كانت في طريق العودة من المدرسة إلى البيت ذات يوم عندما سقطت. فقدت وعيها حين كانت تصعد السلالم إلى محطة سيبو شينجوكو، فسارعت بها سيارة الإسعاف إلى أقرب غرفة طوارئ. ولمَّا سمعت بالأمر هُرِعت إلى المشفى، ولكن في الوقت الذي وصلت فيه كان قلبها قد توقَّف. حدث كلُّ شيء في طرفة عين. كنَّا قد تناولنا الإفطار سويًّا ذلك الصباح وودَّعنا بعضنا بعضًا أمام الباب، أنا في طريقي إلى المدرسة الثانوية العليا وهي في طريقها إلى المدرسية الثانوية الدنيا. في المرة التالية التي رأيتها فيها كانت قد توقفت عن التنفُّس. أُغلِقت عيناها الكبيرتان إلى الأبد، وكان فمها مفتوحًا قليلا وكأنها على وشك قول شيء ما.

وفي المرة التالية التي رأيتها فيها كانت في تابوت. كانت ترتدي ثوبها المخملي الأسود المفضَّل وعلى وجهها لمسة من مساحيق التجميل وشعرها مُمشَّطٌ بعناية، وتنتعل حذاء جلديًّا صقيلا أسود، وترقد ووجهها للأعلى في التابوت المتواضع الحجم. وكان للثوب ياقة بيضاء برباط، شديدة البياض إلى حدّ أنها بدت متكلّفة.

وهي ترقد هناك، بدت نائمة بسلام. بدت وكأنها ستستيقظ إذا ما هززتَها بلطف. بيْد أنَّ ذلك كان وهمًا. هُزَّها كما تشاء، ولن تستيقظ ثانيةً أبدًا.

لم أكن أودُّ أن يُحشَر جسد أختي الضئيل الرهيف في ذلك الصندوق المقيِّد الضيق. شعرتُ أنَّ جسدها ينبغي أن يُهجَع ليستريح في مكان فسيح. في وسط مرج مثلا. سنمضي بصمت إلى زيارتها ونشقّ طريقنا بين الأعشاب الخضراء الوارفة. ستُهفْهِف الريحُ العشبَ ببطء، وتتصايح الطيور والحشرات حولها. ستملأ رائحةُ الزهور البرية الرطبة الهواءَ، ويتطاير غبار اللقاح. وعندما يهبط الليل ستزدان السماء فوقها بنجوم فضية لا حصر لها. في الصباح، شمس جديدة ستجعل قطرات الندى تتلألأ فوق العشب كالجواهر. بيْد أنها في الواقع محشورة داخل تابوت تافه. كانت الزخارفُ الوحيدة المحيطة بتابوتها زهورًا بيضاء مشؤومة قُطفت ووُضعت في مزهريات. كانت إضاءة الغرفة الضيقة ساطعة وخالية من اللون. من مكبِّر صوت صغير في السقف انبعثت أنغام متكلفة لموسيقى الأرغن.

لم أحتمل رؤيتها تُحرَق. عندما سُدَّ غطاء التابوت وأُغلِق غادرتُ الغرفة. لم أقدِّم يد المساعدة حين وضعت عائلتي عظامها على نحو طقوسي في جرَّة. خرجت إلى فناء المحرقة وبكيت بصوت مكتوم. خلال حياتها القصيرة جدًّا، لم أساعد أختي الصغيرة قطّ، وقد آلمتني تلك الفكرة إيلامًا شديدًا.

بعد وفاة أختي تغيَّرت عائلتي. أصبح أبي أكثر صمتًا، وأمي أكثر عصبية وتوترًا. وفي الأساس واصلت الحياة نفسها كما فعلت دائمًا. انضممت إلى نادي تسلُّق الجبال في المدرسة مما جعلني أنشغل، وإن لم أكن أفعل ذلك كنت أمارس الرسم الزيتي. نصحني معلم الفنون أن أجد مدربًا جيدًا وأن أدرس الرسم حقًّا. وحين بدأت أخيرًا أحضر حصصًا في الفن أصبح اهتمامي جادًّا. أظن أنني كنت أحاول إشغال نفسي كي لا أفكِّر في أختي المتوفاة.

زمنًا طويلا – لست متيقنًا كم من الأعوام – ترك والداي غرفتها تمامًا كما هي. الكتب الدراسية والأدلة والأقلام والمماحي ومشابك الأوراق المكدّسة فوق منضدتها، الشراشف والبطانيات والوسائد فوق سريرها، مناماتها المكويَّة والمطويَّة وزيُّها المدرسي المعلَّق في الخزانة، كلُّها بقيت بلا مساس. الروزنامة على الحائط ما تزال تحمل جدولها مسجلا بخط يدها الصغير. تُركت في الشهر الذي ماتت فيه وكأنَّ الزمن تجمَّد في تلك اللحظة. بدا وكأنَّ الباب سيُفتح في أي لحظة وستدخل هي. حين لا يكون هناك أحد غيري في البيت، كنت أذهب أحيانًا إلى غرفتها، أجلس بهدوء على سريرها المرتّب وأنظر حولي. لكنني لا أملس شيئًا على الإطلاق. لم أرغب أن أزعج ولو قليلا أيًّا من الأشياء الصامتة التي تركتها وراءها، إشارات إلى أنَّ أختي كانت بين الأحياء يومًا ما.

طالما حاولت تخيَّل الحياة التي ستعيشها أختي لو أنها لم تمت في الثانية عشرة. مع أنه لم تكن ثمَّة من طريقة لمعرفة ذلك. لم أستطع تصوُّر حتى ما ستكون عليه حياتي، ولهذا لم أعرف أي شيء كان سيحمله مستقبلها. بيْد أنني أعرف أنها لو لم تكن تعاني مشكلة في أحد صمامات قلبها لكبرت وأصبحت فتاة بارعة وجذابة. إنني على يقين أنَّ رجالا عديدن سيحبونها وسيأخذونها بين أذرعهم. إلا أنني لا أستطيع تصوُّر ذلك بالتفصيل. إنها في عيني أختي الصغرى إلى الأبد، التي تصغرني سنينا ثلاثا وتحتاج حمايتي.

بعد وفاتها أخذت أرسمها بعض الوقت مرارًا وتكرارًا. رحت أنسخ في كراسة رسمي ما أتذكره من وجهها من زوايا مختلفة كي لا أنساه. ليس لأنني كنت على وشك أن أنسى وجهها. سيبقى محفورًا في عقلي إلى يوم مماتي. ما كنت أسعى إليه هو ألا أنسى الوجه الذي أتذكره في ذلك الحين. ولكي أفعل ذلك كان عليَّ أن أمنحه شكلا بالرسم. كنت في الخامسة عشرة وحسب حينها، وهناك الكثير لم أكن أعرفه عن الذكرى والرسم ومرور الزمن. بيْد أنَّ شيئًا واحدًا عرفته وهو أنني بحاجة إلى فعل شيء للتشبُّث بتسجيل دقيق من ذاكرتي. اتركه وشأنه وسيختفي في مكان ما. مهما كانت الذاكرة حيَّة فإن سطوة الزمن أقوى. لقد عرفت ذلك غريزيًّا.

كنت أجلس وحدي في غرفتها أرسمها. حاولت أن أرسم على الورقة الخالية كيف بدت في عين عقلي. كنت أفتقر إلى التجربة حينها وإلى المهارة الفنية اللازمة، ولذا لم تكن العملية يسيرة. كنت أرسم وأمزق، وأرسم وأمزق بلا نهاية. ولكنني عندما أنظر الآن إلى الرسوم التي احتفظت بها (ما زلت متعلِّقًا بكراسة رسمي منذ تلك الأيام)، أستطيع أن أرى أنها تفيض بإحساس صادق بالألم. قد تبدو غير ناضجة فنيًّا، ولكنها كانت نتيجة جهد خالص، كانت روحي تحاول إيقاظ روح أختي. عندما أنظر إلى هذه الرسوم، لا أستطيع منع نفسي من البكاء. لقد أنجزت رسومًا لا حصر لها منذ ذلك الحين، ولكن لا شيء آخر مما رسمت أسال دمعي هكذا أبدًا.

كان لموت أختي أثر آخر فيَّ: لقد أثار حالة عنيفة جدًّا من رهاب الاحتجاز. منذ أن رأيتها ممدَّدة في ذلك التابوت الصغير الضيق، وقد أُغلق عليها الباب وأوصد جيّدًا ثم أُخذت للحرق وأنا عاجز عن دخول الأماكن المغلقة الضيقة. مدةً طويلة لم أستطع استخدام المصعد الكهربائي. أقف أمام المصعد وكل ما أفكر فيه تلقائيًّا هو أنه سينغلق وثمَّة زلزال وأنا محاصر داخل ذلك المكان الضيق. مجرد التفكير كان كافيًا لإثارة شعور خانق بالهلع.

لم تظهر هذه الأعراض مباشرة بعد وفاة أختي. أخذت ثلاث سنوات تقريبًا حتى ظهرت إلى السطح. كانت أول مرة أصبت فيها بنوبة هلع بُعيْد بدء الدراسة في كلية الفنون عندما كنت أعمل بدوام جزئي في شركة نقل بضائع. كنت مساعد سائق شاحنة نحمل فيها الصناديق وننزلها، وذات يوم أُغلق عليَّ الباب خطأً داخل مقصورة الشحن الفارغة. كان عمل اليوم قد انتهى ونسي السائق أن يتيقَّن من عدم وجود شخص في الشاحنة. أَغلق الباب الخلفي من الخارج.

مضت ساعتان ونصف قبل أن يُفتح الباب وأستطيع الزحف خارجًا. طوال ذلك الوقت كنت محتجزًا داخل مكان مغلق ومظلم تمامًا. لم تكن شاحنة تبريد أو ما شابه، ولذا كان هناك فجوات يدخل منها الهواء. لو أنني فكَّرت في الأمر بهدوء لأدركت أنني لن أختنق.

ولكن رغم ذلك، تمكَّن مني ذعر شديد. كان هناك أكسجين كاف، ومع ذلك، مهما تنفست بعمق لم أكن لأستطيع امتصاصه. أصبح تنفسي مرهقًا وبدأ معدَّل تنفسي يزيد. شعرت بالدُّوار. "لا بأس، اهدأ." قلتُ لنفسي. "ستتمكن من الخروج قريبًا. مُحال أن تختنق هنا." لكن المنطق لم ينجح. كان الشيء الوحيد في عقلي هو أختي الصغيرة وهي محشورة في تابوت صغير وقد سُحب إلى المحرقة. مذعورًا أخذت أدقُّ جدران الشاحنة.

كانت الشاحنة في مواقف الشركة وجميع الموظفين عادوا إلى بيوتهم بعد انتهاء اليوم. لم يلاحظ أحد غيابي. رحت أدقُّ بجنون ولكن بدا أن لا أحد كان يسمعني. عرفت أنني إن لم يحالفني الحظ فسأبقى محتجزًا هناك حتى الصباح. عند هذه الفكرة شعرت وكأنَّ عضلاتي كلّها على وشك التمزُّق.

كان حارس الأمن الليلي الذي يقوم بجولاته في الموقف هو من سمع أخيرًا الضجة التي أحدثتها وفتح الباب. لمَّا رأى كم كنت هَلِعًا ومنهكًا جعلني أستلقي على السرير في غرفة استراحة الشركة وقدَّم لي كوبًا من الشاي الساخن. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا مستلق هناك. بيْد أنَّ تنفسي عاد منتظمًا أخيرًا. أقبل الفجر، شكرت الحارس واستقللت أول قطار في اليوم عائدًا إلى البيت. انزلقت إلى سريري واستلقيت هناك منتفضًا كمجنون وقتًا طويلا.

منذ ذلك الحين أصبح استخدامي المصعد الكهربائي يثير فيَّ الذعر نفسه. لا بدَّ أنَّ الموقف أيقظ خوفًا كان متواريًا بداخلي. يخامرني شكٌّ طفيف أن تكون ذكرى موت أختي قد حرَّضته. ولم يقتصر الأمر على المصاعد، بل وأي مكان مغلق. لم أستطع حتى رؤية الأفلام ذات مشاهد في غواصات أو صهاريج. مجرد تخيُّل نفسي محتجزًا داخل أماكن ضيقة كهذه – مجرد تخيُّلي ذلك – يجعلني غير قادر على التنفس. غالبًا كان عليّ أن أقف وأنصرف من القاعة. لذلك كان من النادر أن أذهب إلى السينما بصحبة شخص آخر.

عندما كنت في الثالثة عشرة وأختي في العاشرة، سافرنا وحدنا إلى ياماناشي برِفكتشر في أثناء العطلة الصيفية. كان خالُنا يعمل في مختبر أبحاث في إحدى الجامعات في ياماناشي وذهبنا لنقيم معه. كانت هذه رحلتنا الأولى كطفلين نقوم بها بأنفسنا. كانت أختي تشعر بتحسن نسبيًّا ذلك الحين، ولهذا سمح لنا أبوانا بالسفر وحدنا.

كان خالنا أعزبا (وما يزال حتى الآن) وقد بلغ الثلاثين توًّا كما أعتقد. كان يجري بحثًا في الجينات (وما يزال)، هادئ جدًّا وروحانيّ بعض الشيء، رغم أنه شخص منفتح وصريح. يحب القراءة ويعرف كل شيء عن الطبيعة. كان يجد متعة في التنزُّه في الجبال أكثر من أي شيء، ولهذا كما قال قد التحق بعمل جامعي في ياماناشي الجبلية الريفية. كنت وأختي نحب خالي كثيرًا.

حملنا حقائبنا على ظهورنا، ركبنا قطارًا سريعًا في محطة شينجوكو المتجه إلى ماتسوموتو، وترجَّلنا في كوفو. جاء خالنا لاستقبالنا في محطة كوفو. لقد كان طويل القامة بصورة مذهلة، وحتى في المحطة المزدحمة استطعنا تمييزه فورًا. استأجر منزلا صغيرًا في كوفو مع صديق له، لكنَّ صديقه كان مسافرًا ولذا أقمنا في غرفته. قضينا أسبوعًا في ذلك البيت. وكنَّا كل يوم تقريبًا نخرج في نزهات مع خالنا في الجبال القريبة. علَّمنا أسماء أنواع مختلفة من الزهور والحشرات. كنَّا نعتزّ كثيرًا بذكريات ذلك الصيف.

ذات يوم مشينا أبعد من المعتاد وزرنا كهف ريح قريبًا من جبل فوجي. كان هذا الكهف أكبر كهوف الريح الكثيرة المحيطة بجبل فوجي. أخبرنا خالنا كيف تشكَّلت هذه الكهوف. تكوَّنت من البازلت، ولذا فإنك لا تكاد تسمع أصداء داخلها، قال. وحتى في الصيف تبقى حرارتها منخفضة، وكان الناس في الماضي يحفظون الثلج الذي يحصلون عليه في الشتاء داخل الكهوف. شرح لنا الفرق بين نوعين من الكهوف: كهوف فوكِتسو الكبيرة التي التي تتسع بشكل كاف للأشخاص لدخولها، وكهوف كازا-آنا الصغيرة التي لا يستطيع الناس دخولها. كلا الاسمين قراءة بديلة للمفردتين الصينيتين نفسيهما التين تعنيان "ريح" و"ثقب." بدا خالي يعرف كل شيء.

في كهف الريح تدفع رسوم دخول وتمضي إلى الداخل. لم يذهب خالنا معنا. دخل إلى هناك مرات كثيرة، كما إنه طويل القامة وسقف الكهف منخفض جدًّا وقد ينتهي به الأمر إلى أن يعاني ألم الظهر. قال: "إنه ليس خطيرًا فاذهبا أنتما الاثنان. سأبقى عند المدخل وأقرأ كتابًا." عند المدخل أعطى الشخص المسؤول كلا منَّا مصباحًا يدويًّا ووضع خوذتين صفراوين من البلاستيك فوق رأسينا. كانت هناك أضواء في سقف الكهف، ولكنَّ الكهف بدا مظلمًا جدًّا من الداخل رغم ذلك. كلما مضينا بعيدًا في الكهف كان السقف أكثر انخفاضًا. لا عجب أنَّ خالنا الهزيل الطويل القامة تخلَّف عن المجيء.

أضأت وأختي المصباحين اليدويين ونحن نمشي. كان الوقت منتصف الصيف في الخارج – تسعون درجة فهرنهايت – ولكنَّ الجو كان باردًا داخل الكهف، أقل من الخمسين درجة. عملًا بنصيحة خالنا، ارتدى كلانا سترة واقية غليظة أحضرناهما معنا. أمسكت أختي بيدي بقوة، إمَّا رغبة منها في أن أحميها أو أملا في أن تحميني (أو لعلَّها لم تودّ أن ينفصل أحدنا عن الآخر). طوال الوقت الذي قضيناه داخل الكهف كانت تلك اليد الصغيرة الدافئة في يدي. كان الزائرون الآخرون فقط زوجين في منتصف العمر. بيْد أنهما سرعان ما غادرا وبقينا نحن الاثنين فقط.

كان اسم أختي الصغيرة كوميتشي، إلا أنَّ كل من في العائلة يدعوها كومي. وأصدقاؤها يدعونها ميتشي أو ميتشان. وبحسب علمي لم يدعها أحد باسمها الكامل، كوميتشي. كانت فتاة نحيفة صغيرة. كان لها شعر أسود ناعم، مقصوص بعناية أعلى كتفيها. كانت عيناها كبيرتين بالنسبة إلى حجم وجهها (بِبؤبؤين كبيرين)، مما جعلها تشبه جنيَّة. ارتدت في ذلك اليوم تِي شيرتا أبيض، وجينزًا باهتًا وحذاءً رياضيًّا ورديًّا.

بعد مضينا بعيدًا في الكهف اكتشفت أختي كهفًا صغير الحجم يبعد قليلا عن الطريق المحدَّد. كان فمه مختفيا في ظلال الصخور. كانت مهتمة جدًّا بذلك الكهف الصغير. سألتني: "ألا تعتقد أنه يبدو مثل حفرة أرنب ألِس؟"       

كانت أختي مغرمةً ب"مغامرات ألِس في بلاد العجائب" لِلويس كارول. لا أعلم كم من المرات جعلتني أقرأ لها الكتاب. لا بدّ أنها مائة مرَّة على الأقل. لقد بدأت تقرأ منذ أن كانت طفلة، إلا أنها أحبَّت أن أقرأ لها ذلك الكتاب بصوت عال. ومع أنها حفظت القصة، كانت تأخذها الحماسة في كل مرة أقرأها. جزؤها المفضَّل كان عن الكركند كوادريل. إنني أتذكر حتى الآن ذلك الجزء كلمةً كلمة.

قلت: مع أنّه لا يوجد أرنب.

قالت: سألقي نظرة على الداخل

قلت: كوني حذرة.

لقد كانت حفرة ضيقة حقًّا (تشبه كازا-آنا بحسب تعريف خالي)، بيْد أنَّ أختي الصغيرة كانت قادرة على الانزلاق فيها دون عناء. كان معظم جسدها في الداخل وخرج النصف السفلي من ساقيها فقط. بدا وأنها قد أشعلت مصباحها اليدوي داخل الحفرة. ثم خرجت ببطء إلى الوراء.

أخبرتني قائلة: تبدو الحفرة عميقة في الخلف. الأرضية تنخفض بحدَّة. تمامًا مثل حفرة أرنب ألِس. سأعود وأستكشف نهايتها.

قلت: كلا لا تفعلي. إنه خطر جدًّا.

لا بأس. أنا صغيرة الحجم وبوسعي الخروج. لا بأس.

خلعت سترتها الواقية، فبقيت بالتِي شيرت وناولتني السترة والخوذة. وقبل أن أتفوَّه بكلمة اعتراض كانت قد شقَّت طريقها متلويَّةً إلى داخل الكهف ومصباحها في يدها. في لحظة اختفت.

مضى وقت طويل ولم تخرج. لم أتمكَّن من سماع أي صوت.

صحت في داخل الحفرة: كومي، كومي! هل أنت على ما يرام؟

لم تكن هناك إجابة. ومع غياب الصدى، ابتلع الظلام صوتي. بدأ الأمر يقلقني. لعلَّها احتُجزت داخل الحفرة وعجزت عن الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف. أو لعلَّها أصيبت بتشنج هناك وغابت عن الوعي. إن حدث ذلك لن أكون قادرًا على مساعدتها. عبرت في رأسي سيناريوهات مريعة شتَّى وأحسست باختناق من الظلام المحيط بي.

إن اختفت أختي الصغيرة حقًّا في الحفرة ولم تعد قط إلى هذا العالم، كيف لي أن أشرح ذلك لوالديّ؟ هل أجري وأخبر خالي الذي ينتظر عند المدخل؟ أو أجلس متوترًا وأنتظر ظهورها؟ انحنيت ونظرت عبر الحفرة. لكنَّ ضوء مصباحي لم يصل بعيدًا. كانت حفرة صغيرة وكان الظلام مخيِّمًا.

صحت ثانية: كومي. ما من إجابة. صحت مرة أخرى بصوت أعلى: كومي. ما من إجابة أيضا. موجة من هواء بارد أصابتني بالقشعريرة في الصميم. قد أفقد أختي إلى الأبد. لعلَّها ابتُلِعت في حفرة ألِس، في عالم السلحفاة الساخرة، والقط تشيشر، وملكة القلوب. عالم لا مكان فيه للمنطق. ما كان ينبغي أن نأتي إلى هنا، فكَّرتُ.

لكنَّ أختي عادت أخيرًا. لم تخرج زاحفة من الخلف كالسابق، وإنما أخرجت رأسها أوَّلا. برز شعرها الأسود أوَّلا من الحفرة، ثم كتفاها وذراعاها، وأخيرًا حذاؤها الرياضي الوردي. وقفت أمامي دون أن تنبس بكلمة، تمطَّت وتنفست تنفسًا عميقًا ونفضت الرمل عن جينزها.

كان قلبي ما يزال يخفق بقوة. مددت يدي ورتَّبت شعرها الأشعث. لم أتمكَّن من ترتيبه جيّدًا في الضوء المعتم داخل الكهف، ولكن بدا أنَّ ثمة رمل وغبار وأوساخ أخرى عالقة بتِي شيرتها الأبيض. ألبستها السترة الواقية وناولتها الخوذة الصفراء.

قلت وأنا أحضنها: اعتقدت أنك لن تعودي.

هل قلقت؟

كثيرًا.

أمسكت بيدي بقوة. وقالت بصوت متحمِّس: لقد تمكَّنت من ضغط جسدي عبر الجزء الضيق، ثمّ عندما مضيت بعيدًا أصبح المكان منخفضًا فجأة، وبدا الأسفل هناك مثل حجرة صغيرة. حجرة دائرية مثل كرة. كان السقف دائريًّا والجدران دائرية والأرضية كذلك. وكان المكان صامتًا جدًّا جدًّا هناك وكأنك حتى لو بحثت في العالم كله لن تجد مكانًا بهذا الصمت. كنت وكأنني في أسفل محيط في حفرة تتعمَّق. أطفأت المصباح وأصبح المكان شديد السواد، ولكنني لم أشعر بالخوف أو الوحدة. تلك الحجرة مكان خاص مسموح لي فقط بدخوله. حجرة خاصة بي وحدي. ما من أحد آخر بوسعه الدخول إلى هناك. ولا أنت تستطيع.

لأنني كبير الحجم.

هزّت أختي الصغيرة رأسها. "صحيح. حجمك كبير لا يسمح لك بالدخول. المدهش حقًّا في ذلك المكان أنه أشد ظلمة من أي مكان يمكن أن يكون مظلمًا. شديد الظلمة إلى حدّ أنك حين تطفئ المصباح تشعر وكأنه بوسعك الامساك بالظلام بيديك. وكأنَّ جسدك يظهر ويختفي شيئًا فشيئًا. ولكنك لا تستطيع رؤية ذلك بسبب الظلام. إنك لا تعلم إن كان ما يزال لك جسد أم لا. ولكن حتى وإن اختفى جسدي تمامًا مثلا سأكون ما زلت هناك. مثل ابتسامة قط تشيشر التي تبقى بعد اختفاء جسده. غريب جدًّا، هاه؟ ولكنني حين كنت هناك لم أفكِّر أنَّ الأمر غريب مطلقًا. أردت أن أبقى هناك إلى الأبد، ولكنني فكرت أنك ستقلق فخرجت."

قلت: "لنخرج من هنا." بدت من شدة الحماسة أنها ستمضي في الكلام إلى الأبد، وكان عليّ أن أضع حدًّا لذلك. "لا أستطيع التنفس جيدًا هنا."

سألتني أختي قلقة: أأنت على ما يرام؟

أنا على ما يرام. أريد فقط أن أخرج.

تشابكت أيدينا وانطلقنا إلى المخرج.

"أتعرف؟" قالت أختي بصوت خفيض ونحن نمشي حتى لا يسمعها أحد آخر (مع أنه لم يكن أحد هناك). "إنّ ألِس توجد حقًّا. لم تكن القصة تأليفًا. كانت حقيقية. الأرنب البري، المجنون هَتَر، قط تشيشر، جنود أوراق اللعب... كلهم موجودون."

قلت: لعلهم كذلك.     

خرجنا من كهف الريح إلى العالم الحقيقي المشرق. كانت هناك طبقة رقيقة من الغيوم في السماء في ذلك الأصيل، ولكنني أتذكر كم كان سطوع الشمس مريعًا. كان صرير الزيزان صاخبًا مثل عاصفة عنيفة تغمر كل شيء. كان خالي يجلس على مقعد قريبا من المدخل مستغرقًا في القراءة. عندما رآنا ابتسم ووقف.

بعد عامين ماتت أختي. ووُضِعت في تابوت صغير وأُحرِقت. كنت في الخامسة عشرة وكانت في الثانية عشرة. بينما كانت تُحرق خرجت وانفصلت عن باقي أفراد عائلتي، جلست على مقعد في فناء المحرقة وتذكرت ما حدث في كهف الريح ذاك: ثقل الوقت وأنا أنتظر أختي الصغيرة تخرج، كثافة الظلام المحيط بي، البرودة الشديدة التي شعرت بها. شعرها الأسود وهو يبرز من الحفرة، ثم كتفاها. كل التراب والغبار العالق بتِي شيرتها الأبيض.

في ذلك الحين، داهمتني فكرة: أنه حتى قبل أن يعلن الطبيب في المشفى وفاتها رسميًّا بعد عامين لاحقًا، لعلَّ حياتها كانت قد سُلبت منها حين كانت في أعماق ذلك الكهف. اقتنعت في الحقيقة بذلك. لقد فُقِدت في تلك الحفرة، وغادرت العالم، ولكنني كنت أعتقد خطأً أنها كانت ما تزال على قيد الحياة، وأخذتها معي في القطار وأعدتها إلى طوكيو. أمسكتُ بيدها بقوة. وعشنا أخًا وأختًا عامين آخرين. بيْد أنَّ ذلك لم يكن أكثر من مهلة خاطفة. بعد عامين زحف الموت خارجًا من ذلك الكوخ ليقبض روح أختي. كأنما قد آنَ أوانُها، وكان لزامًا علينا أن ندفع ثمن ما أُعِرنا إياه، وجاء المالك ليستردَّ ما كان له.

بعد سنوات، أدركت كشخص راشد أنَّ ما أسرَّت به إليّ أختي الصغيرة بصوت خفيض في كهف الريح ذاك كان حقيقيًّا. ألِس موجودة حقًّا في العالم. الأرنب البري، المجنون هَتَر، قط تشيشر... جميعهم موجودون حقًّا.

 

 اقرأ/ي أيضًا: 

كيت تشوبان.. حسرة 

مشاهدات امرأة من تحت الأنقاض

شكرًا لك سيدتي