05-أغسطس-2015

صورة بانورامية لبيروت (Getty)

السؤال: هل ستهاجر؟

الإجابة السريعة: لا.

لا أستطيع الابتعاد عن بيروت. ولا عن عائلتي. أحبّ بيتنا الصّغير في الجنوب. ولكن إن كان عليّ أن أجيب بصدق، في هذه الأوقات البائسة، فسأجيب بأنّي لا أريد السّفر. أحبّ لبنان. أكتب هذا مغلقًا أنفي بيدي من رائحة النّفايات. الحكام لا يحرّكون ساكنًا، ولكنّي أشعر بالرّاحة، وأودّ البقاء رغم كل شيء. ليست أول مرة لا يكون فيها لدينا رئيس، ولا جمهورية، لكنها ليست أول مرة لا نكترث. ليس لدينا مجلس نوّاب حقيقي طبعًا. ولم نعد نتحدث عن الحرب في سوريا. ولا حتّى أزمة الكهرباء، اعتدنا.
في أيّام كهذه تتحد الأشرفيّة "البداية" مع أوتوستراد السّيّد هادي نصرالله. لأوّل مرّة يجمعنا شيء ما: قمامتنا. اللافت في الأمر هو أنّ أزمة القمامة ليومين حرّكت لسان البلد أكثر ممّا حرّكه الفراغ الرّئاسيّ لسنة كاملة. ولكن بالحديث عن الهجرة، الفارق ليس كبيرًا. البلد معرض للشتيمة عندما تنقطع الكهرباء في منتصف اللّيل من مشاهدٍ لمباراة كرة قدم يحلم بمدرجات الملاعب في أوروبا. أسباب الهجرة منتشرة في كلّ شارعٍ من شوارع المدينة. واضحة للجميع، ولكن لا شيء كشوارع بيروت الصامتة، في الخامسة صباحًا.

شارع الألوان

سكان شّارع الحمرا متعلقون به والآخرون لا يمانعون الانتقال للسكن في شارع الألوان

إن نزلت الى الشّارع ورحت تسأل المارّة عن بيروت فكلّ منهم سيصفها بطريقة مختلفة. كلّ منهم سيصف لك مدينة ما. ربما سيصف سكان الضّاحية الجنوبّية حيًّا تخاله من الفافيلا، أي مدن الصفيح البرازيلية. وروّاد وسط المدينة سيصفون شارعًا يعتقدون زيفاً أنه يشبه لوس أنجلس. أمّا "جماعة الحمرا"، فسيتكلّمون عن شيء يشبه شوارع باريس الكئيبة والحميمية. لا هوية واضحة لبيروت. بيروت هي نفسها ولكنها تختلف في عيونهم، من الأشرفية إلى آخر الضاحية، على أطراف الشويفات.

محمّد يعيش في الضّاحية الجنوبية منذ طفولته، موالٍ لأهل الضّاحية ولحزبها بكلّ ما للكلمة من معنى. عند سؤاله عن أسعد أوقاته في الضّاحية يتحدث عن مقهى صغير ونراجيل وورق اللعب. الللاعبون يجتمعون بالصدفة، المودة دائمة. طريق الجديدة لا تختلف كثيرًا عن الضاحية، فالمشهد الّذي وصفه عبد وهو أحد سكّان طريق الجديدة هو نفسه المشهد الّذي وصفه محمّد. كلاهما يحبّ الجلوس في المقاهي، والمقاهي دائمًا متواضعة. والأصحاب هم أنفسهم. ثمة كليشيه آخر: الأوّل سيشاهد المنار أمّا الثّاني سيشاهد المستقبل. أضاعوا مدينتهم بين هذا وذاك.
روّاد وسط المدينة مختلفون، أكثر ترفاً، أكثر رفاهية من سكان المناطق الشعبية، سيحدّثونك عن حياة أفضل، ولكنّ ما يعرفه الجميع في لبنان أن الطّبقة الوسطى بالكاد موجودة. وبالكاد لزوار وسط المدينة زوار. فمن يعيش في الضّاحية أو في طريق الجديدة ويتقاضى راتبًا مقبولًا يمكنه التفكير بالمرور في وسط المدينة. أحد الأشخاص كان يتمنّى أن يتسوّق في وسط المدينة. كان الأمر بمثابة الحلم بالنسبة له، وقد حقّق حلمه بالفعل حين بدأ العمل في أحد متاجر الألبسة هناك. للحمرا  قصّة مختلفة، فليس للحمرا سكّان محدودون. للحمرا أهلها، وأهلها هم الجميع. الجميع متعلّق بالشّارع الّذي يعيش فيه، ولكن الجميع لا يمانع أن ينتقل للسكن في شارع الألوان.

ما زال شارع الحمرا مختلفًا رغم اختلافاته المتكررة عن نفسه. ثمة من يبيع الورد في وسط الشارع، ثمة ما يضفي لمسةً قديمةً عليه، كأنّه لم يتغيّر منذ التّسعين. وهذا اعتقاد خاطئ طبعًا، لكنه حميمي. إلى ذلك، لا يحب صديقنا محمد أن يمتد النزوح الريفي إلى الحمرا، يحبّها هكذا مدينة. والحال أنّ بيروت تتّسع للجميع. تحضن شوارع كثيرة. فشوارعها ومناطقها مجموعةُ تشكّل بيئة تلائم شابًّا طائشًا يقود درّاجته النّاريّة بتهوّر في إحدى الأحياء الفقيرة وتلائم مثقّفًا يحبّ مطالعة الكتب في أكثر المقاهي رقيًّا في أحد الشّوارع الواسعة. كلّ منطقةٍ في بيروت فيها قصة. يتوجب عليك المرور في كلّ منطقة في بيروت. صحيح أن ثمة انتشارًا حزبيًّا في بعض أرجائها وهو مظهر أساسيّ أحيانًا، ولكنّ المفارقة أن النّاس يرحّبون به كما لو أنّهم اعتادوا دويلتهم. يتباهى الشباب في الضّاحية بالذّهاب إلى أحد مقاهي الحمرا، كما لو أنّ من يذهب يرتقي إلى طبقة اجتماعيّة أعلى، وهذا بلا شك سببه الشعور بالحرية، والخروج من الدويلة.

ما يستحقّ البقاء

لا عازفين في شوارع بيروت كما في مدن العالم، مجرد حيوات قاحلة ثقافيًّا

سألنا محمّد عن سبب بقائه في البلد. لم يبدأ بالحديث عن العزّة والكرامة والصّمود والكلمات المملّة الّتي تتردّد على ألسنة أهل الضّاحية يوميًّا، حتّى لو لم يكن للموضوع صلة بمسائل وطنية وسيادية، إلخ إلخ إلخ. أجاب متفاجئًا: "من وين بجيب بفيزا". سألناه مجددًا: أين ستسافر إن توافرت؟ فأجاب: "مش مهم". المفاجئ هو أنّ محمّد ليس لديه ما يستحقّ البقاء من أجله، ومثله كثيرون يعتبرون السؤال عن البقاء من أصله تافهًا. لديهم في ذاكرتهم صور مؤلمة من البلد: طفل بريء توفّي بسبب رصاصة طائشة في تشييع. موجز من الأخبار الرّديئة عن الوضع الاقتصادي السّيّء حين يشغّل الرّاديو، جمود ومظاهر دفن الحياة في الأحياء المقتظّة. لا عازفين في شوارع بيروت كما في مدن العالم، مجرد حيوات قاحلة ثقافيًّا.

لهذه الأسباب سافر الّذين يحبّون الحياة. يسافر كلّ الّذين يفكّرون بالمستقبل، غير المتعلقين بالماضي. يسافرون ليغيّروا واقع حياتهم الرّمادي. القاعدة بسيطة: كلّ من يعاني من شيء في لبنان سيودّ السّفر عاجلًا أم آجلًا، هذه ليست دعوة للهجرة من وطنٍ يعاني. تتكدس البيوت المتراكمة فوق بعضها من أول البلاد في المطار، إلى آخرها في الأرياف المعدمة. أي شابّ عشرينيٌّ سيفضّل السّفر على أيّ شيء، إن لم يكن يعيش حياةً مشجّعة في لبنان. سيوافق على الابتعاد عن أهله بكلّ برودةٍ مقابل السّفر والتّمتّع بحياة أفضل، فهو قد خسر عشرين عامًا من عمره ولا يودّ أن يخسر المزيد، هذا ما يقوله أحد المهاجرين. سيهاجر فلا هواء في لبنان إلا في الخامسة صباحًا حين يكون الشارع مظلمًا.

يقول أبو علي "ما في متل لبنان". أبو علي لم ير غير لبنان فما الذي يجعله متأكّدًا إلى هذه الدرجة؟!

ثمة قاعدة تقول إنه كلّما زاد وقت البقاء في مكان ما سيزداد تعلّق الإنسان به تدريجيًّا، فسجين العشرين عامًا الّذي خرج من السّجن أخيرًا، سيشتاق لسريره المعتاد في أوّل ليلة له في المنزل. وهذه القاعدة تنطبق على الجميع.

أبو علي شهد أفراح ومآسي البلد منذ أربعة وخمسين عامًا. شاهد الحرب الأهليّة والتّحرير وحرب تموز، ورغم كلّ ما حصل لم تطأ رجله أرضًا خارج الحدود. يحتسي القهوة كلّ صباحٍ على نفس الكرسيّ في الحيّ، يرفض السّفر رفضًا قاطعًا ويقول "ما في متل لبنان". أبو علي لم ير غير لبنان فما الّذي يجعله متأكّدًا إلى هذه الدرجة؟ لقد اعتاد على الحيّ البسيط، ولم يخرج منه ليرى إن كان هناك حيٌّ أبسط. تعلّق بثيابه الرّخيصة ومن الصّعب عليه خلعها واستبدال ملابس مختلفة بها. يخاف من الجديد، ومن الغربة. فهو يعلم أن لبنان ليس رائعًا، وليس سويسرا الشّرق، بل لأنّه وطن يحمل الذّكريات الدّافئة، وكلّ من يصنع ذكرياتٍ أكثر، يمكث هنا أكثر.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

النوستالجيا تربح دائمًا

"زمان وأيام زمان".. تجليات النوستالجيا في حياتنا اليوم

 

دلالات: