18-يونيو-2016

رجل يحمل الخبز في القاهرة

لماذا يشعر الناس في مصر بالفقر والجوع وقلة الحيلة دائمًا؟ إعلانات التبرعات تقول إنه لا أحد ينام من غير عشاء، ولا طفل لن يجد ملابس جديدة وحذاء لميع في العيد يحتفل به مع أصدقائه، ولا عروس سيقف جهازها على ثلاجة أو غسالة أو إيجار شقة.. والبركة في جمعية "رسالة".

لا تتوقف الإعلانات لحظة عن تصدير الصورة الجميلة التي ستكون مصر عليها إذا سقطت في فخ منظومة "التكافل الاجتماعي"

الكل يقبل يديه ليلًا ونهارًا شكرًا لله على سبوبة الخير التي نسفت ظاهرة أطفال الشوارع، والراقدين تحت تراب الكباري، والمقابر، وأخرجت الغارمات، والمديونين من السجون، وحوَّلت مشهد آكلي ونابشي الزبالة في شوارع القاهرة إلى خط وجبات جاهزة حسابها مدفوع مقدًّما من "كنتاكي" و"ماكدونالز". لا تتوقف الإعلانات لحظة عن تصدير هذه الصورة الجميلة، التي ستكون مصر عليها إذا سقطت في فخ منظومة "التكافل الاجتماعي"، سبوبة الخير في روايات الأخرى، التي يشرف على أغلبها الشيخ علي جمعة، ويقدم إعلاناتها خالد الجندي، وشريف شحاتة، وممثلون ولاعبو كرة (يُقال) إنهم يؤدون أدوارهم مجانًا.

اقرأ/ي أيضًا: مثقفو الواجهة في الجزائر.. ضوء مغشوش

ستقول.. وهل تشكك في "حسن نية" نجوم إعلانات الخير؟ سأقول، بعضهم يقدم الإعلان زكاة رمضان، والبعض الآخر يطلب الشيك مقدمًا، وهذا حقه، فالجميع يستفيد من عمل الخير.. لماذا يتبرع بحسنته؟ وفي الحالتين، الجزاء عند الله، فلا أحد يريد من الدنيا ثوابًا أو شكورًا كما يقول أغلبهم.. وإذا كان نجوم إعلانات الخير يقدمون خدماتهم مجانًا فالقنوات لا تفعل ذلك، وتشترط الحصول على مقابل، أحيانًا يكون نسبة من التبرعات، مقابل إذاعة الإعلان.. الذي يؤكد إن كله لوجه الله!

والحقيقة أنه لا شيء لله وحده أبدًا.. حتى من يشاركون في التبرعات والإعلان بنية مخلصة للثواب والفقراء، ويقصدون وجهًا كريمًا تفلت أقدامهم في إثم مؤسسات الخير، التي تؤسس لمجتمع السادة، ومجتمع عبيد إحساناتهم، الذي سيموت من الجوع والفقر والحرمان إذا انقطع عنه المصروف بداية كل شهر، ومع هلال رمضان، وقبل العيد وبعده.

مجتمع عبيد إحساناتهم، الذي يتم التعامل معه باعتباره أرقامًا على ورق، وفلوس تسدّد شهريًا لسد فمه حتى لا يتهوّر، وينقلب إلى ذئب جائع ينهش "علية القوم" في الشوارع بدلًا من أن يمدّ يديه طالبًا المعونة (زكاة وزيت وسكر وملابس مستعملة).

هل تعلم مؤسسات التبرعات أنها تربي شعبًا من "الشحاتين" في مصر؟

ولأن مجتمع "عبيد إحساناتهم" ليس لديه دخل ثابت، يعيش على المدّد، لا يتوقف عند مواسم الخير، فمواسم الانتخابات والصراعات السياسية تناسبه، فيبيع صوته للحزب الوطني والحرية والعدالة والمصريين الأحرار مقابل شنطة رمضان، وأكياس أرز، ومائة جنية مقطوعة.. يأخذ نصفها الثاني بعد بيع "صوته الانتخابي"، وعلى استعداد لأن يكون مواطنًا شريفًا يضرب المتظاهرين والصحفيين مقابل "حسنة". 

اقرأ/ي أيضًا: المرأة العربية كزهرة!

مجتمع السادة -دون أن يقصد- يمنح عطاياه للفقراء إتاوة تسمح له بأن يعيش في أمان لأن خيره على الجميع، ولا أحد يعضّ اليد التي امتدت له.. يقول إن كله لله، لكن الحقيقة أنه ومؤسسات الخير التي تسهّل مهمته لو كانت تعمل الخير وترميه للبحر لاتجهت إلى تشغيل العاطلين، وبناء مصانع وشركات تجعل "عبيد إحساناتهم" موظفين يصرفون من جيوبهم.. وليس من "زكاة رمضان". 

وإذا كانت المصانع والشركات مشروعات ضخمة، فابدأوا بمشروعات صغيرة وامنحوها للفقراء، واخلقوا في كل منطقة تحت خط الفقر باب رزق مفتوحًا لمن يريد أن يشتري لنفسه الأكل والملابس بكرامة وعزة نفس، ويخرج من دوامة مدّ الأيادي، التي يغلقها عليهم "أهل الخير" ليتحوّلوا إلى "فرصة" لنجاتهم في الدنيا والآخرة.. ومع كل غني ينجو بنفسه.. فقير يزداد فقرًا وبؤسا وذلا وضياعًا.. ولا يدخل الجنة ولا النار!

ما الذي يريده أهل الخير؟ السؤال بصيغة أدق، هل تعلم مؤسسات التبرعات أنها تربي شعبًا من "الشحاتين" في مصر؟ إذا كنت حسن النية ستقول لا، لكن الشاهد الوحيد أن التبرعات خلقت مجتمعًا سفليًا من العبيد، ليس لهم حقوق، لأن حقوقهم هي ما يجود به السادة.. الذين في أيديهم "المنح والمنع".

وإذا كنت سيئ النية، ستقول إنها مؤامرة على المصريين، فالمطلوب من التبرعات أن تعوّد الشخصية المصرية على المذلة، ومدّ الأيادي، والتنازل عن الحقوق.. وإعلانات التبرعات مسؤولة عن تذكيرهم بين فواصل المسلسلات أنهم عبيد مدربين على الذل والإهانة والإفلاس، وليس من حقهم أن يرفعوا صوتهم أو يطالبوا بأي شيء.. ليس من حقهم أن يكون لهم حقوق من الأساس. 

نم على بطنك.. أنت في مجتمع "عبيد إحساناتهم"!

اقرأ/ي أيضًا:

حزب الله يجتاح كلية العلوم في الجامعة اللبنانية

رغم ذلك أحبّ دمشق