25-يناير-2024
جنود اسرائيليون في منزل مدمر في غزة 2024

(Getty) جنود الاحتلال في منزل مدمر في غزة

تبعث الفيديوهات الرائجة لتصرفات الجنود الإسرائيليين، في مناطق قطاع غزة المدمرة، سؤالًا إنسانيًّا عن السبب النفسي وراء هذا المرح في مسرح الدماء القائم، لا سيما عند تعبيرهم عن فرحهم وهزئهم بخراب المدينة، عبر تصرفات طفولية مثل اللهو بأغراض أهل المنزل الذي أخلَوْه، أو تلبّس دور المعلم الفلسطيني وتلاميذه في فصل مقصوف ومهجور.

الانتقام من الصورة الماضية والتماهي بالمعتدي

لا تذكّر صورة الحصار الحالي لقطاع غزة والإمعان في تدميره بشيء كما تذكر بأحداث معسكر أوشفتيز، بفرق أن الألمان هم من كانوا خلف الأبواب الموصدة وغرف الغاز، وانقلبت الصورة الآن ليكون الجنود الإسرائيليون مكانهم، وإن بدت الصورة – كما يصوّرها الإعلام الغربيّ على الأقلّ - أقلّ فظاعة.

مشاهد من مثل اللهو بسرير رجل غزيّ قتله الجنود الإسرائيليون أو أرغموه على النزوح، أو إهداء تفجير حي سكني لطفلة جندي في يوم ميلادها؛ هي مشاهد انتقامية في المحل الأول من سردية معاناة "الشعب اليهودي" التي نشأ عليها الجندي الإسرائيلي، ومحاولة للتماهي بالمعتدي الأول عبر تكرار مشهديته وأفعاله، فإن لم يكن النازيون موجودين الآن فثمّة مَن يحلّ محلهم في الذهن الإسرائيليّ: الفلسطينيون.

صحيح أن الفلسطيني لم يكن موجودًا في غرف الغاز، لكنه الآن عدوّ معوِّض للعدوّ الأصليّ بحكم أنّه يرفض الوجود المستقلّ لإسرائيل على أرضه، ولذلك فهو عدوّ يصلح للانتقام ما دام يشترك مع العدو القديم في جزئية رفض الوجود هذه، دون أي التفات إلى فارق أن هذا الفلسطيني يدافع عن أرضه ويبحث عن وجوده قبل أن يدعو إلى إلغاء وجود أحد. ومن ثَمّ فإن هذا السرير الفارغ للرجل الفلسطيني بعد تهجيره، وهذا البيت الّذي يُنسَف ويُهدى للطفلة في عيد ميلادها، إنمّا هي علامات نصرٍ للجندي.

إنّ الجندي الإسرائيلي المعزَّز بأفكاره العدائية التاريخية والحاضرة للعرب، إنّما يتماهي مع المعتدي القديم لشعبه ويحاول الانتقام لنفسه، لا من المسبب الأوليّ للأسى، بل من صورته الضعيفة عندما كان ضحية

هذه الحالة هي تمامًا ما أطلقت عليها المحللة النفسية آنا فرويد مصطلح "التماهي مع المعتدي"؛ إذ تصير "الضحية" التي عانت الأمرّين من سلطة المعتدي وسطوته شبيهةً به ومتلبّسةً بصفاتِه بعد أن تحلّ محله في السلطة وتملك إمكاناته في التجبّر، وهكذا يتحول الناجون من محرقة هتلر منفّذين لحرب إبادة.

إنّ الجندي الإسرائيلي المعزَّز بأفكاره العدائية التاريخية والحاضرة للعرب، إنّما يتماهي مع المعتدي القديم لشعبه ويحاول الانتقام لنفسه، لا من المسبب الأوليّ للأسى، بل من صورته الضعيفة عندما كان ضحية، ينظر إلى الفلسطيني الأعزل نظرته لليهودي البولندي الأعزل أمام بندقية النازي، يكره أن يتذكر عذابه، وضعفه، وإذلاله، فيشفي نفسه بقتل هذا الأعزل، لأنّه يذكره بالذات اليهودية الضعيفة، يريد أن يحرق تاريخ عذابه بإحراق الفلسطيني الذي يعدّ صورة حاضرة للشعب الرافض للعذاب.

إنّه لا ينتقم من ضعفه القديم وحسب، بل يمتدّ انتقامه إلى نفَسٍ احتقاريّ للفلسطيني واعتقادٍ بالتفوُّق المطلَق، فالإسرائيلي يرى نفسه بطلًا ثابر وقاوم وتعذّب حتى وصل إلى قوته التي تخوّله للقتل، ومن ثَمّ فإنه يُمعن في إضعاف الفلسطيني –وربما العربيّ- ويسدّ كل طرق الوصول للقوة عليه؛ من رفض إقامة الدولة الفلسطينية، ورفض المقاومة ومحاربتها على كل الأصعدة، إلى التضييق حتى على مقاومة أي احتجاج سلميّ في الغرب ومحاربة كل صوت يسعى إلى مناصرة الحقّ الفلسطينيّ، كما رأينا مع رئيسة جامعة هارفارد مؤخّرًا.

التجريد في عقيدة القتل الإسرائيلية: النظر للعرب على أنهم "آخر"

يصبح الإنسان أكثر عدائية مع الكائنات التي لا تشبهه، إذ إنّ السبب الجلي للتعاطف هو اشتراك طرفي هذا الشعور -المسبّب والمتأثر- بالخصائص نفسها. فيمسك الإنسان يده عندما يرى شخصًا تُبتَر يده، لأنّه يملك العضو ذاته ويستطيع تخيّل مدى الألم الواقع عليه، ويتعاطف أحدهم مع موت أمِ أو ابن لشخص ما، لأنّه يملك أمًّا وابنًّا يخشى خسارتهما ويحبهما، فيتخيل نفسه مكان الفاقد فيتحسر عليه.

التعاطف البشري قائم على الاشتراك بالخصائص الإنسانية والعضوية، فلا نتعاطف مع قنديل البحر أو دودة القز مثلًا، لأنّ طبيعتيهما العضوية مختلفة جذريًا عنّا، ولا نراهن على وجود حس عاطفي لديهما، إلاّ إذا صاغَ أهل الرحمة شريعةَ التعاطف من باب أنّها كائنات تحمل أعصابًا وتتألم، وهنا أيضًا نؤكد على أنّ هذه الأعصاب المشتركة كانت سببًا في التعاطف. القاعدة باختصار أنّ كلّ ما يُدرَكُ ألمه يؤلمنا نحن البشر.

لماذا إذن ينفّذ الجنود في الحرب الحالية على غزة كل هذه الفظائع دون أسف؟ ولماذا يمرحون ويصفقون أمام مشاهد القتل التي يصنعونها؟ الإجابة بكلمة واحدة: التجريد. حتى يستطيع الجندي الإسرائيلي ارتكاب كل هذه الفظائع فإنّه يجرّد من أمامه من إنسانيته، ولهذا بالضبط صرّح المسؤولون الإسرائيليون بأنّ أهالي غزة هم مجرّد "حيوانات بشريّة"؛ هنا يسقط المشترك الإنساني ويصعُب التعاطف. هذا هو التجريد: حلّ فكرة الاشتراك العضوي والعصبي مع الآخر.

خلال غسيل الدماغ الطويل، يصير الفلسطينيّ –مسالمًا كان أو محاربًا- مجرّدًا من بشريته وصالحًا للتنكيل به والإمعان في محوِه، ويصير مشهد بتر قدم طفلة بدون أي أدوات تخدير موزايًا لمشهد  خلع قدم لطاولة خشبية لا يستطيع أي إنسان أن يبني صلةً عاطفية معها.

من المعروف أنّ كراهية العرب للاستيطان اليهودي كانت مدخلًا جيّدًا لآباء الصهيونيّة لتعزيز فكرة جعل العربي "آخرَ" مهدّدًا للوجود اليهوديّ ومستحقًّا للسَّحق؛ فتحوّلت صورة المطالِب بحقّه في أرضِه إلى مهدّدٍ للوجود اليهوديّ نفسه، فصرّح به بن غوريون مثلا أنّ العرب في حالة كراهية مع اليهود تجعل من الضروريّ لكلّ عاملٍ يهودي "أن يتعلم الدفاع عن نفسه" (كما جاء في كتاب "بن غوريون والعرب" لـ تيبت شبتاي).

هذه القولبة للصّراع من كونه صراعًا على الأرض إلى صراعٍ مع الآخر لأنه آخر، هي التي قادت الجندي الإسرائيليّ إلى تجريد الإنسان الفلسطيني من إنسانيته، باعتبارِه "شيئًا" يهدّد وجوده ولا بدّ له أن يتخلصَ منه.

هذا التجريد للفلسطيني من إنسانيته هو الذي يُحاول الجندي الإسرائيلي إثباته في هذه الحرب، ليس عبر الإمعان في القتل والقصف وتدمير الحياة المدنية وتهشيم المجتمع بأسره فقط، بل بمحاولة القضاء على الهُويّة الفلسطينية نفسها أثناء كل ذلك.

ولذلك فهم يردّدون أغنيات التراث الفلسطيني، محرّفين لها بشكل ساخر للإمعان في استفزاز الجرح الغزيّ، مثل أغنية: "أنا دمي فلسطيني" التي تحوّلت إلى "أنا دمي إسرائيلي"، و"الشعب العربي وين" التي تحوّلت إلى نداء تهكّم على وحدانية الشهيد والخائف في القطاع!