15-يناير-2024
Mo Qasem

كاريكاتير لـ مو قاسم/ هولندا

لا تحتاج الصور القادمة من غزة إلى شرحٍ أو تعليق. إنها، في أحد جوانبها، أبلغُ ما قد يخرج من فم الحرب والموت في آنٍ معًا. وهي، في جانبٍ آخر، جزءٌ من مأساةٍ بدأت قبل 75 عامًا ولم تنته حتى الآن. وما بين هذين الزمنين الكثير من الموت الذي وثِّق بعضه في صور، وأغفلت الكاميرات – بقصدٍ أو بدونه – بعضه الآخر. وبينهما أيضًا الكثير من الخراب الذي يبدو في الصور فصيحًا وبليغًا كأنه ركامٌ من الكلام والمعاني وليس والحجارة.

إنها فصلٌ من فصول حكايةٍ بدأت ببضعة صورٍ للاجئين في طريقهم إلى مخيمات اللجوء وبلدان الشتات بعد تهجيرهم من أرضهم، وتفيض الآن بآلاف الصور لبشرٍ يدفعون حياتهم ثمن رفضهم تكرار ما وثّقته الصور السابقة: الهجرة.

تترك الصور القادمة من غزة أثرًا عصيًا على الفهم والتفسير، شأنه شأن ما توثِّقه الصور من مشاهد تُعقِّد فهمنا للموت والحياة معًا. ومع أنها تقول كل شيء، ونفهم كل ما تقوله، لكننا نعجز عن كتابته. فماذا نكتب عن أبٍ يضع في يد طفله الشهيد قطعة حلوى كانت آخر ما طلبه الطفل، ولكنه لم يحظ بفرصة تناولها؟ ماذا نكتب عن يدٍ هي كل ما يظهر من جسدٍ يئن تحت أطنان الركام والخيبات؟ وعن رجلٍ يحمل كف طفلٍ هي كل ما تبقى منه؟

يؤجل تداول صور الشهداء بين أفراد العائلة والأصدقاء من التئام جراح ذويهم، بل وتُبقيهم عالقين في لحظة استشهادهم إلى أمدٍ غير معلوم

أو ماذا نكتب عن أولئك الذين يتجمعون أمام قسم المشرحة في مستشفى ناصر، بخان يونس، يوميًا، لتوديع ذويهم؟ أولئك الذين يَشدُّون على قضبان السياج البني أو يسندون رأسهم إليه بينما يحفر الدمع أثر الأسى على وجوههم؟ رجالٌ ونساءٌ وأطفال خطف ألم الفقد ملامح وجوههم وأحال أقدامهم سرابًا فلم يجدوا ما يستندون إليه سوى تلك القضبان، التي لو قدِّر لها أن تتكلم لصار الحديد ترابًا لفرط ما عرفته من ألمٍ يحمل أولئك الذين يستندون إليه أضعاف أضعافه.

وأي كلام يُقال عن تلك الوجوه الباكية فوق جثامين ذويهم الشهداء الذين وصل عددهم إلى حوالي 24 ألف شهيد، ولم يُشفَ غليل "القبيلة" الإسرائيلية بعد!

استعدت بينما أكتب هذه الكلمات طلبَ أحد أقاربي من أصدقاء ابنه، الذي قتلته طائرات النظام، أن يتوقفوا عن إعادة نشر صوره في مواقع التواصل الاجتماعي وتذكيرهم به بين وقتٍ وآخر. الأحرى منعهم من التعامل معه، على الأقل، كغائب. وباستعادة هذا الموقف، استعدت الكثير من المواقف الأخرى المرتبطة بصور الشهداء وأثرها.

وتساءلت حينها عن ما يفعله الغزّيُّ بعد إدراكه بأن كل تبقى من ذويه وأصدقائه مجرد صور. وعن ما يشعر به وهو يقلِّب صورهم صورةً بعد صورة. عن ردة فعل أب/ أم يُصادف/ تُصادف صور ابنه/ ابنها التي يُعيد الأصدقاء وأفراد العائلة نشرها؟

هذه أسئلةٌ تبقى بلا إجابة. مع ذلك، نعرف منها، على الأقل، أن الصور تُفاقم الألم، وأن تداولها بشكلٍ مستمر يُبقيه حيًّا لأنها تؤجِّل التئام جراح ذوي الشهيد، وتجعل من لحظة استشهاده حدثًا متكررًا بصورةٍ يومية، وكأن استشهاده بدأ ولكنه لم ينته! وكأنه يودّعهم لتوِّه لكن هذا الوداع لا نهاية له.

وبينما ننسى نحن، يومًا ما، صور الدمار والخراب وأشلاء الضحايا المتناثرة هنا وهناك، وغيرها من الصور الصادمة الأخرى، تُحاط عوائل الشهداء بصورهم أكثر فأكثر، فهي كل ما تبقى لهم منهم، وهي ما يجعل من استشهادهم حدثًا دائم التكرار وكأنه يحدث لتوِّه، ما يجعلهم غير قادرين لا على نسيانه، لأن ذلك غير ممكن، وإنما على تجاوز لحظة استشهاده والتعامل معه على أنه غائب.

كأن صور الشهداء، في زماننا هذا، ولكونها كثيرة إلى الحد الذي يصنع منطقًا خاصًا، تُبقي ذويهم عالقين في لحظة استشهادهم إلى أمدٍ غير معلوم!