لا يخلو منظور المسلمين عمومًا من التقديس حيال كتاب "السيرة النبوية" لابن هشام، على الرغم من كونه كتابًا لا ينتمي إلى ما هو إلهي أو نبويّ، فلا هو مُنزَّلٌ من السماء بفعل الوحي، ولا هو ينتمي إلى فضاء أحاديث النبي الكريم، إنما هو عمل بشري يجمع سيرة شخصية لها هالة مقدسة. فابن اسحاق الذي وضع الكتاب أساسًا شخص بعيد زمنيًا عن زمن الرسالة المحمدية، وهو ليس صحابيًا، ولا حتى من التابعين، وابن هشام الذي قام بتلخيص الكتاب، وبات يُعرف بسيرة ابن هشام، متأخر تاريخيًا عن ابن اسحاق، مع ذلك، وبشكلٍ لا شعوري، يتعامل المسلمون مع هذا الكتاب تعاملًا قدسيًا، يقترب من وضعه إلى جوار القرآن والحديث، ما يشكِّل سدًّا أمام أية قراءة إنسانية تسعى إلى محاولة الفهم، فهم الكتاب ومعناه العام، من دون الانتقاص من مكانة نبي الإسلام.

مضمون كتاب "السيرة النبوية" معروف للمسلم حتى لو لم يقرأه، كونه يأخذ طابعًا حكائيًا يجعله سهل التداول، دون حاجة إلى شروح وتفاسير 

مضمون كتاب "السيرة النبوية"، وهنا نتحدث عن سيرة ابن هشام، معروف للمسلم حتى لو لم يقرأه، كونه يأخذ طابعًا حكائيًا يجعله سهل التداول، دون حاجة إلى شروح وتفاسير حال القرآن، أو إلى أسانيد الحديث الشريف، لأن حكاية النبي مطروحة في البيوت خلال الجلسات العائلية، وبين صفحات الكتب المدرسية، وفي خطب المساجد أيام الجمع، وعلى شاشات البرامج التلفزيونية.

اقرأ/ي أيضًا: المسلمون وانتقائية التعامل مع السيرة المحمدية

الحكاية سهلة ومتاحة لأنها حكاية الدين الإسلامي نفسه، منذ طفولة النبي وحتى رحيله، عبر المرور على كل ما تعرَّض له.

ثمة كتب عديدة حول السيرة النبوية، وتكاد لا تمرّ سنة دون أن تشهد صدور المزيد من هذه الكتب، لكنها في عمومها تستند إلى ما جاء عند ابن هشام، فتعيد ترديد تفاصيل أو تنشغل بتوسيعها، من دون أن تتطور الكتابة إلى تقريب النبي من الحياة، إنما تؤكد على أمرين: السيرة النبوية كحكاية، والنبي كبطل.

أما الكتب التي تقرأ السيرة قراءة فكرية وتاريخية فتكاد تشكّل مكتبة بحالها، بين ما وُضع بالعربية أو تُرجم إليها، سواء من الباحثين الناطقين بها أو من المستشرقين، لكن حضور هذه الكتب في الفضاءات العامة شبه معدوم، ويكاد لا يقرأها خارج أطر التخصص الأكاديمي والبحثي سوى رجال الدين أنفسهم ليردوا على مزاعمها، أو ليثنوا عليها.

يثير الاستغراب حقًا أن الباحثين الذين انشغلوا في إعادة الاعتبار للسيرة الشعبية، بوصفها تراثًا حكائيًا عربيًا ذا خصوصية، لم يمضوا لتناول الأصل الذي حاكته هذه الأعمال، وهو السيرة النبوية، حيث سبقت من حيث تاريخها ظهور كل ما نتداوله من سير: سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، والزير سالم، وتغريبة بني هلال.. من المعروف أن هذه الملاحم الشعبية نُسجت على المنوال السردي الذي قدّمته السيرة النبوية، بل إن طُرق تقديمها للجمهور أخذت أيضًا منها، فحيث تروى السيرة حكائيًا في المساجد، وغنائيًا في مجالس التصوف والمنشدين، فإن السيرة الشعبية تروى في المقهى وتغنى في الأفراح أيضًا.

مع السيرة النبوية يُروى الإسلام بوصفه قصة، شخصياتها تحمل طابعًا دراميًا، ومصائرها تتخذ مسارًا أسطوريًا. المسلمون، مثل غيرهم من شعوب الأرض، جعلوا الدين حكاية، ونظروا إلى الأنبياء بوصفهم أبطالًا أسطوريين منذورين لأقدار كبرى، ترمي إلى تغيير المجتمعات، على أساس ينطلق من الخير ضد الشر، والحق ضد الباطل، وهذا أيضًا متاح في السيرة النبوية كما في كتب قصص الأنبياء.

الأنبياء أبطال أسطوريون لولا ذلك لما كانوا يستحقون التصديق. ليسوا أبطالًا عاديين في رواية معاصرة تتبدل شخصياتهم وتتحول، لا، هم ثابتون، إنهم مكرسون لقضية كبرى، ولهذا تبدأ ملامح هذا المصير منذ الطفولة، ثم تبدأ بالتوضح حين يأتيهم ملاك الرب.

ومن ذلك مثلًا "حديث شق الصدر"، وهي حادثة محل خلاف بين المسلمين سنة وشيعة، وثمة آراء كثيرة حولها، لكنها في كتاب "تهذيب ابن هشام" (وهو تلخيص للتلخيص قام به الباحث والمحقق عبد السلام هارون)، تروى على لسان الرسول مجيبًا على سؤال أصحابه: "يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء قصور الشام، واسترضعتُ في بني سعد بن بكر. فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرى بُهْمًا لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، بطستٍ من ذهبٍ مملوءة ثلجًا، ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقةً سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه".

لا تختلف  السيرة النبوية عن بنية الملاحم، من حيث أنها تؤسس لتاريخ جديد، وتشكّل علامة على التحول من تفرق المجتمع القبلي إلى توحده في قبيلة كبرى

ما يقوله هذا المقطع يكفي لنعرف أن بطل القصة رتّبت له الأقدار ما سينفرد به عن الآخرين، صحيح أنه إنسان عادي لكن أشياء فوق العادي تتدخل لتأخذ الحكاية إلى بعد أسطوري، يلعب فيه الخارق العجيب دورًا لا نستطيع التشكيك به فيما بعد.

اقرأ/ي أيضًا: هل نقرأ التاريخ؟

كتب السيرة الشعبية مشت على هذا المسار، ومنه قدّمت لنا أبطالها الذين يخوضون في الخارق والعجيب، ثمة طفولة استثنائية، أحداث غير عادية تحدث للبطل، وبالتالي سيكون مع تنامي السَّرد ذا شخصية بشرية ممتزجة بالقدرة الإلهية.

ومثلما ترجع الأساطير إلى زمن شفاهي، كذلك هو الحال مع السيرة النبوية التي ظلت تروى لقرنين من الزمان حتى سجَّل أحداثها ابن اسحاق، ومن ثم لخّصها ابن هشام، وإذا كانت أسباب لنشوء الملاحم الأسطورية تشير إلى زمن جديد في التفكير البشري، فالسيرة النبوية لا تختلف عن ذلك، لأنها تجعل من هذه الملحمة تأسيسًا لتاريخ جديد، وعلامة على التحول من تفرق المجتمع القبلي إلى توحده في القبيلة الكبرى، أي العقيدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ولاد المدد".. 7 مدّاحين في عشق النبي العربي

بعد 700 عام على التواشيح الدينية في اليمن.. إنشاد على إيقاع الحرب