24-أكتوبر-2016

لقطة من فيلم A Walk in the Woods 2016

ما أصعب أن تختار الممثلين لفيلم عن حياتك الخاصة. يستند فيلم "نزهة في الغابة" (A Walk in the Woods) على مذكرات الكاتب بيل بريسون المليئة بروح الدعابة عن مغامرته لعبور الآبالاش تريل، وهو ممر يمتد عبر جبال الآبالاش بطول 3200 كم تقريبًا، ويبدأ من كتادين في ولاية ماين إلى سبرينغر ماونتاين في ولاية جورجيا.

بريسون، الذي اشتُهر بكتب رحلاته المدبوغة بشعار "الأكثر مبيعًا"، يبدو بنظارته ولحيته الرمادية المشوبة بالحمرة أشبه بممثلي الكوميديا التلفزيونيين في السبعينيات، يلعب دوره هنا الوسيم الأبدي روبرت ريدفورد، ما قد يبدو إغراقًا في التجاوز.

يندفع الفيلم وراء تلك "الحرّيات" الفنّية في التعامل مع القصة الحقيقة لشخصياته، فحين نُشر الكتاب في عام 1998، كان بريسون في السابعة والأربعين من عمره. وحتى ذلك الحين وفي مثل هذا العمر، تعتبر حكاية "نزهة في الغابة" عن الضغط العاطفي والبدني لشخص غير مناسب وكبير في السنّ كي يقوم برحلة مشي لمسافة 3200 كيلومتر.

ريدفورد في الوقت ذاته، يدخل عامه الثمانين تقريبًا ولا يزال يلعب الدور كعجوز عنيد لديه شيئًا ما يثبته للجميع، وقبل ذلك لنفسه. ريدفورد كبير جدًا على الدور وهو ما يخلق تنافرًا غريبًا بين الشخصية والسيناريو يرفع الفيلم إلى مستوى متقدّم من الفانتازيا.

ريدفورد في الوقت ذاته، يدخل عامه الثمانين تقريبًا ولا يزال يلعب الدور كعجوز عنيد لديه شيئًا ما يثبته للجميع

طبيعة تلك الفانتازيا ببساطة هي تصدير شعور جيد لدى المتفرّج وإلهامه، حتى ليبدو الفيلم وكأنه مساعدة ذاتية بالوكالة. بمشاهدته، يُفترض بالمتفرّجين أن يستلهموا إصرار وعزم بريسون (والممثل العجوز كذلك)، بينما تأخذهم الدهشة من مشهديات الآبالاش الجذلة.

مطلوب منهم التماسّ المماثل مع الطبيعة العنيدة لرفيق الرحلة غريب الأطوار ستيفن كاتز (نيك نولتي)، وهو رجل يملك بداخله طبيعة عملية فظّة وإصرار دببي -نسبة إلى الدب الذي قتل صاحبه- يعيش حياة السكارى الورعين الذين يجدون مبررًا أخلاقيًا لأفعالهم، وهو مطارد نساء عتيد كذلك.

اقرأ/ي أيضًا: 10 حقائق مثيرة عن ثلاثية أفلام العراب

يساعد في اكتمال الطبيعة الفانتازية للفيلم أن نولتي، بأعوامه الـ 74 ووجهه الوردي الشبيه بالبطيخ المجفف، يتحدّث كما لو كان "دارث فيدر" مبتلعًا لسانه وبجواره غراب ينذر بالشؤم في أية لحظة.

مثل فيلم "برّية" (2014) لجان مارك فاليه -وهو بيوغرافية أخرى للمشي لمسافات طويلة- يأتي تمثيل الشخصيات الرئيسية كأفضل ما في الفيلم وما يُمكن أن يبقى بعد مشاهدته (بعيدًا عن الكاستينغ "المريب" لفيلم ريدفورد). كذلك يأتي "نزهة" كاستبطان وجودي داخل حدود مسار مغلق: في أحد المشاهد، يكافح بريسون أسفل جسر على طريق سريع ويخوض في مستنقع من الوحل من أجل العثور على طريق مختصرة إلى كيه مارت (سلسلة متاجر لبيع السلع المُخفّضة).

الدرس المستفاد من هذا واضح لكل ذي عين: لقد أصبحت الحياة محددة تمامًا بالطرقات والطرق السريعة والجسور التي ترقم أوقاتنا فيها، وأحيانًا يجب علينا المغامرة بسلك "الطريق الأقل استخدامًا"، تلك الطريق التي لطالما شغلت المخيلة الأمريكية.

مخرج الفيلم كين كوابيس (1957) أتى إلى المشروع من خلال عدد من مسلسلات "السيت كوم" المتلفزة التي لم تحدث الفارق، ويبدو أن تعاونه مع الممثل الكبير قاد لنفس المصير. الفيلم، كما هو الحال مع التحايا الأخيرة من جانب التيار الرئيسي (mainstream) لقدامى النجوم، يسيطر عليه شبح الموت وهو محركه الرئيسي.

ينحّي الفيلم جانبًا جنازة ذلك الصديق الذي لم يكترث لتقديمه أبدًا، ويأتي ريدفورد عبر الدرب نفسه حين تخبرنا الموسيقى أن "نعم، سيغتنم بطلنا العجوز يومه ويبدأ رحلته عبر البراري الأمريكية"، ليأتي الرد المهلك من زوجته (إيما تومسون) تحثه على اتخاذ رفيق له في رحلته لدواعي السلامة، وبعد مهاتفة كل الأسماء في دفتر الهاتف، ينتهي به المطاف إلى تحضير الحقائب مع كاتز. وعلى الرغم من احتمالية انهيار الرحلة قبل تجاوز الميل الأول منها، يباشر الاثنان مغامرتهما بدءًا من جورجيا، يصاحبهما قطع مونتاجي مبتذل واستنتاجات يمكن التنبؤ بها.

 

قارئ "نزهة في الغابة" سيتذكّر ذلك الجزء الذي وصل فيه بريسون إلى بلدة صغيرة تدعى جاتلينبرج في ولاية تينيسي: بعد موجات ثابتة من الصور الخصبة والحكايات المرتبكة من أيامه اللانهائية من المشي مع رفيقه الغريب، تنهمر نزعته التشاؤمية في ختام فخّ الرحلة السياحية المفرطة في تسويقيتها.

يصف بريسون البلدة بأنها مكان فيه "حشود من الناس يشبهون الكمثرى، يهيمون بين روائح الطعام ومشروبات جروتسكية ودلاء ممتلئة بالشراب"، ويعلي من الإحباط حين يشير إلى دراماتيكية مجاورة تلك البلدة "الوضيعة" للحديقة الوطنية في سموكي ماونتاينز.

ملاحظات قاسية مثل هذه، هي ما تضيف القيمة لحكايته أكثر من تعهّده لـ "خطاب أمريكي مقبول" أكسبه الكثير من المعجبين طوال حياته المهنية. في هذه المعالجة السينمائية الجديدة يندفع ريدفورد لنفس الشيء، إلا أن سنواته العشر في الإشراف على المشروع كمنتج سمحت -بطريقة ما- بتحوّله إلى مجرّد فخّ تسويقى آخر.

تعليقات نولتي الجنسية الخشنة تبدو كرجع صدى لحياة مليئة بالندوب والغزوات

مع الارتكان إلى كليشيهات "اكتشف نفسك" التي تصلح لدورات التنمية البشرية أكثر من صلاحيتها للسينما الجادّة، ويمكن تشبيه دوره في إنتاج الفيلم بمن أتى بالسولار على لوحة بريسون الزيتية دون تقديم الشيء المميز الذي يصلح تبريرًا لفعلته.

العديد من أجزاء الرواية المميزة تم تشويهها، من لقاء الصديقين بتلك المتمشّية التي تعوزها اللباقة ماري إلين (كريستين شال)، إلى البقاء في نزل مهلهل، ومغامرة كاتز الجنسية مع امرأة متزوجة في واينسوود. "أنا متخصص في الألبسة الداخلية"، يترنّم كاتز في أكثر جُمل الفيلم بقاءً. ومع الأخذ في الاعتبار أن ريدفورد ونولتي أكبر بعقود من نظرائهما في الرواية، ربما لن يتفاجأ أحد حين يسمع أغنية "جت لاكي" لفريق "دافت بانك" في إخلاص للدقة التاريخية ربما لم يخطر على بال أحد من المتفرجين! وتحت نصٍّ "يمشي على الواحدة"، يصبح اختراق عقل بريسون فرصة لمقاربة الغرور المقترن بما يمكن تسميته "أصالة المثقف".

اقرأ/ي أيضًا: شجرة الحيَاة وشاعريّة ماليك التي لا تُضاهى!

فهو يلقي بنكات وضيعة أكتر منها ساخرة أو بريئة، وعندما يقرأ ملاحظات تاريخية حول الممرّ يبدو ذلك صادرًا عن رجل ينفخ بوقه الخاص أكثر من رغبته في إيضاح مسألة تراثية ما. اللوم يقع على ريدفورد أيضًا بقدر النصّ، لأنه سواء كان يمكنه ملاحظة دبّ برّي في مشهد ليليّ مملّ أو الحصول على توصيلة من قِبل زوجين شابين تقودهما الرغبة الجنسية في شاحنتهما الصغيرة، فإنه لا يبدي اهتمامًا في المشهد أكبر من اهتمام شخص ينتظر اخضرار إشارة المرور.

المثير للدهشة في هذا الفيلم أن البطل الحقيقي هو نولتي. هناك الكثير من الحساسية الكوميدية الساخرة في سلوكه المُهمهم والمغمغم (صرخة يطلقها بينما يلقي حبل مشنقته، كان لها النصيب الأوفر من الضحكات في العرض الذي حضرناه)، ولكن تعليقاته أيضًا موتيفة مطرّزة بالتوفيق من ناحية اتصالها بنواقص العالم الأول وعُقَده أفضل مما تفعل التعليقات المتعجرفة لريدفورد/بريسون.

من الضروري التأكيد على أن فشل الفيلم ليس مَردّه اختلافه عن تجربة بريسون الحقيقية "التي أتمّ الكثير من مسافتها هو وصديقه كاتز"

تعليقات نولتي الجنسية الخشنة تبدو كرجع صدى لحياة مليئة بالندوب والغزوات، في حين أن التركيبات البلاغية المسجوعة لريدفورد حول النساء مزعجة ومثيرة للتهكم في أفضل الأحوال. وبينما يدور ريدفورد بلا هدف حول ماري ستنبورجن في الموتيل العائلي، تأتي لحظة موازية نرى فيها نولتي زاحفًا إلى سريرٍ مضاء لتكون متنفّس الفيلم بعيدًا عن الشؤون الداخلية والمغلقة، وكأنها صورة معاكسة وحلمية لقرية جاتلينبرج لن تعود أبدًا.

والأكثر من ذلك حين تأتيه، نولتي، الفرصة لمونولوج طويل عن إدمانه الكحولي في أكثر مشاهد الفيلم عاطفية. وحيث إن الفيلم يغيّب جوانب مروعة من حكاية بريسون -وزن الحقيبة الساحق والقدم النازفة وضبابية الرؤية في الغابة- فإن ألم نولتي الكامن يملأ فجوة كبيرة من فجوات الفيلم العديدة وينقذه من الملل الكامل.

وفي الأخير من الضروري التأكيد على أن فشل الفيلم ليس مَردّه اختلافه عن تجربة بريسون الحقيقية "التي أتمّ الكثير من مسافتها هو وصديقه كاتز بالسيارة"، مثلما يدّعي ريدفورد، ولكن يكمن في الإخراج المتداعي الذي يسمح للمشاهد الطبيعية الفارغة وموسيقى سبوتيفي Spotify بالقيام بالمهمة بدلًا عنه. إنها رحلة فيلمية مهتمة بايجاد العظة أكثر من المشاعر، وتصرخ طلبًا لقيادة مُغامِرة أو مخرج بعين أكثر موهبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:
فيلم كتير كبير.. سوريالية الحياة والصراع الوهمي
جوليان مور: مخيف أن تموت أحاسيسنا
"فيلم كتير كبير".. إلى الأوسكار