12-ديسمبر-2017

أسامة دياب/ فلسطين - سوريا

ليلًا في الثّلج جميلٌ ذلك المشهد. يُذكّرني بلمعتكِ الذّهبيّة، رغم الأبيض الطّاغي المتمثّل في قبّعة الفتاة السّائرة أمامي. كيف أنّ خصل شعرها المنسدلة على كتفيها ليست بيئةً مناسبة لتجمّع الثّلوج؟ فهي دافئة كالحنين، كالدّم المتدفّق بين حجارة القدس، كروحٍ صاعدة لا توقفها الحواجز العسكريّة. و كبُرعمٍ رقيقٍ أشقر، لا يحتمل أن يتشارك أحدٌ حِمْلَهُ، ولو كان نَدفَةَ ثلج!

لكن ما يثير الحفيظة كيف أنّكَ خلال تنزّهك تدهس جزءًا منه، بينما تستمتع بما حولك ممّا لا تطاله قدماك! هل هي ساديّةٌ ما؟ إذ أنّكَ لن تتوانى عن هذا "عن دهسه" لو خطر على بالك الذّهابُ يمينًا فجأةً! أو حين ينهار العالق على الأغصان وكان ممتعًا منذ لحظة دون مبالاة! أليس ممكنًا بعد تغنّيكَ بهذه الشّجرة المثقلة بالجمال كثوب عروسٍ جامحة، أن تقف قربها لقضاء حاجة؟

يشبه الأمر فتات الخبز، الذي تهمله بعد أن تشبع. أو كأس الماء الذي تسكب نصفه في المصرف، ولو لأسبابٍ صحيّة. لعلّ الّلغة الضّروريّة هنا، هي الإشارة، ولا يفهمها غير المضطر. كلّما خطوتَ بصمتٍ أكبر، علا صوت الهسيس! كأنّك تركّز على الإيقاع في أغنيةٍ أو مقطوعةٍ موسيقيّة، وهو الموجود لضبط الوزن على الأغلب. لكنّكَ الوزن هنا، والضّبط والإيقاع والآلات. كلّ شيءٍ عدا الّلحن المرجوَّ من حديثكَ. ذاك الصّوت المفترض أن يكون خفيًّا، يفضحك مثل مقياس الضّغط. ليست العبرة في الإسراع أو التّهادي، بل بإنصاتك إلى نفسك أثناء المشي.

هو خفقةٌ أحاديّة قد تصل إلى حدّ الرّعب ممّا أنت فيه، حيث ترى قلبك على بعد خطوةٍ من التّوقف إذا تابعت لمسافةٍ أطول. عليّ الوصول إلى البيت. قد يتغيّر كلّ شيءٍ بالنّظر عبر النّافذة! يومَ كانت النّدفاتُ تتساقط كالقطع النّقديّة إذا أثلجتْ في دمشق! أجلس الآن ولا أستطيع حصر سبب الفرحة المباشر آنذاك.

من كان سيهتمّ بهذه التّفاصيل؟! لو تعرفين عن أيّ أبْيَضَ أتحدّث، وأنا وسط هذا الشّتاء الدّائم لا أعرف كيف أثلج صدري. مرَّ يومان على العاصفة. حَزّةُ البرد آخر ما أفكّر فيه. بعض الأبيض قاتمٌ مثل لون السّلام، ذاك الّلون المُحرَّف في عقولنا، الّذي لا يَفرق عن طعم الملح بالنّظر إلى توزيعه على مائدة الدّول أو القارّات. قاتمٌ كراية الاستسلام الشّهيرة الّتي اكتسبت عالميّتها من التّطبيع. وكذاك السَّحَاب الّذي لم يصبح غيمًا فوق من أضناهم العطش في المخيّم! مثل كيس الطّحين وكرت العائلة، وسكّر الإغاثة، قاتم! بعضه شفّافٌ جدًّا رغم بياضه، كالسّاتان الطّويل في لحظة نشوة. كطرحةِ عرسٍ تُمثّل جسدَ عارٍ، لكَ للنّاظرينَ ولو من باب الفكاهة.

كمُقل الحبيية ترى الحياةَ من خلالها. وشفّافٌ ذاك الأبيض الّذي نسمّيه مَدًى، مهما استتر الحنين خلفه سيبدو واضحًا كالنّظر! بعض ما نعرفه مهما تلوّن، فإنّه أبْيَض! كوجه الأمّ، كعَباءتها، كشالٍ كحليّ من زمن الحبّ. هكذا مثل قزح! أبيضٌ كدم المجدليّة الّذي لم يَسِل، كدم الشّهيد الّذي سال. كلّ شيءٍ كالثّلج، يحتمل البياض إلّا هذا الّليل! وإلّا الياسمين المرصّع على قُـبَّـةِ الصّخرة في بلادي: أسمرٌ هو أسمر.

 أسيرُ كأنّ معركةً خلفي، وأنّني أنا؟ أجـرُّ النّصرَ كمِدحَلة! وكلّما غلَبَتْ عليّ فكرة الجيوش الّتي انسحبَت، توقّفتُ والتمست الحذر! ماذا لو دخل الجند الآن إلى المدينة وليس قُـرْبَ ثغري غير هذا الكلام؟ أو غير هذه الأنفاس الّتي أنفثها في قبضتي! من منهما يتجمّد أوّلًا ليصبح حجرًا؟ ومن سيخرج في هذا الشَّمال القطبيّ معي! مضيت إلى الشّارع وحدي، مفكّرًا بالّذي سيحدث لو اتّصلتُ بكِ عبر الرّيح. فهي سيّدة الهتاف الوحيدةُ، وأنا لا أملك سوى هذه التّظاهرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من ديوان القدس

بعد حرب ونيّف