30-يوليو-2019

كيفورك مراد/ سوريا

عائدٌ من الحرب، جنديٌّ يحتفل مع رفقته - يشربون نخب الانتصار في حانةٍ صغيرةٍ تقع خلف بعض شوارع المدينة التي تعج بالمارّة - تصل إليها بعد أنْ تتوه في أزقّتها الملتويّة. أما هو فيحفظها جيدا كعدد القتلى الذين خلّفهم سلاحه.

*

غير مبالٍ بمنْ حوله، كان مارك يتبجّح ببطولته في آخر معركةٍ خاضها وكيف جلب النّصر لبلده، مع كل كأسٍ يشربها إلّا وتزيد ثرثرته فيدخل الأحاديث في بعضها، ويبدأ في التهجّم على هذا ويضرب ذاك ومن ثمّ يضمّ صديقه المقرّب إليه ويتنفس باكيًا. لا يملك جون إلّا أن يواسيه فهو أقرب النّاس إليه ورفيقه في خطّ النّار، كما أنّه يعرف ما يخالجه من الدّاخل، فلا الحرب ولا المدّة التي قضّاها فيها هما ما يجعلانه هكذا ولكن هناك حربٌ أقوى لم تنته بعد. لم تمرّ خمس دقائق حتّى هدأ مارك وعاد إلى مزاجه الأوّل لكن هذه المرّة، يشرب في سكينةٍ وكأنّ شيئًا لم يكن. تعوّد أصحابه على سلوكه الهمجيّ ولحظات الجزع التي تعتريه كلّما عاقر هاته الكؤوس لكنْ في داخله يعرفون ذلك الرّجل المحارب الذي يدافع عنهم ويفديهم بكل ما يملك.

*

 كانتْ آخر رسالةٍ منها منذ سنتين، عندما قالتْ له في آخرها، كن بخيرٍ لأجلي، فأنا وقلبي لم نعد نقوى على البعد أكثر. كان يقرأ كلماتها متفرّسًا الشّوق فيها ويستحضرها بكلّ تفاصيلها أمامه؛ لون شعرها الذي يميل إلى الحمرة قليلًا كأنّه حقل سنابل يودّع الشّمس عند الغروب- نظراتها الدّافئة والعميقة داخل عينين كأنّهما حبّتا فستقٍ اختارتا الهروب من العنقود والمكوث في تلك الأحداق الخصبة- جبينها الواسع كأنّه رسم لأجل تلك العيون- رقبةٌ منحوتةٌ بدقّةٍ تحتلّها بعض الشّامات التي زادتها فتنةًـ جسدها العذب بتفاصيله المتناسقة والمتناغمة لن يرتوي منه أبدًا، وكلّ مرّةٍ يكتشفه كأنّه أوّل مرّة. هكذا يستحضر بعضًا منها، رغبةً فيها وحنينًا إليها، فمنذ سنتين لم يحتضنْها كعادته عندما يوصلها أمام منزلها ويظلّ واقفًا حتى تغيب عن ناظريه. عندما أهداها قلادةً تحمل أولى حروفٍ من اسميهما، وتلك الدموع التي نزلتْ فرحًا من عينيْها عندما قال لها أحبّك. حينها كانت تنتظرها بكلّ شوقٍ كأنّها صبيّةٌ صغيرةٌ تنتظر هدية عيد الميلاد. تذكّر كيف كانا يعشقان السّير تحت المطر وكيف كان يراقصها على أنغام زخّاته عندما ترتطم بالطريق العتيق. عندما يجلسان في مكانهما المعتاد- على ذلك الكرسيّ الذي خلّد قصص عشّاقٍ قبلهم، نقشت عليه بعض الحروف والعبارات الرومنسيّة- والضّوء الخافت لذلك الفانوس الذي ينير لياليهما العاشقة. كان يفضل التّخدّر بصوتها الشجيّ حين تسمعه أغانٍ قديمةٍ تحفظها، خصوصًا عندما تظلّ تعيد له تلك الأغنية مرّاتٍ ومرّات مدندنةً فيها ألف عامٍ من هواك.. قضّيتها كالعين تطرف في دجى الجبل السّحيق.. قضّيتها قلبًا يئنّ مع الظلام بلا رفيق... تصمت وتحمرّ وجنتاها لكنّه يصرّ عليها بأنْ تكمل، فتستجيب له غير ممتنعةٍ، قضّيتها روحًا تثنّتْ وانحنتْ...في أرض حبّك وفق ما سار الطريق... هربتْ به الذاكرة إلى أوّل لقاءٍ عندما جاءتْ عابرةً الحدود الألمانيّة من أرمينيا وكان هو وقتها جنديًّا يحرس الحدود، لكنّه نسي حدود قلبه فاحتلته بكلّ كيانها وسحرها.

*

آنوش، كم كان يحلو لي أنْ ينطق اسمي بتلك اللّكنة المميّزة والمحبّبة إليّ، كنت شابّةً أبلغ من العمر العشرين، لم أستطعْ المكوث مع عائلتي في أرمينيا لسياسة الترحيل وخوفًا من الإبادة الجماعيّة التي كادت تلحق بي أيضًا لولا هروبي من بلدٍ إلى آخر حتّى وطئتْ قدميّ تراب ألمانيا. بعد مدّةٍ تأقلمت مع الوضع هناك وأصبحت أرتاد بعض المحلّات. وتعلّمت قليلًا الألمانية لأستطيع العيش ومجابهة التعصّب النازيّ، فلا بلدي رحمني ولا الملجأ الذي حللت به آمنا. احتضنتني عائلةٌ أشفقتْ على حالي واعتبرتني مثل ابنتهم. كهلٌ وزوجته المسنّة لا رفيق لهما في خريف العمر، يبكيان موت ابنهما في تصفيّة عرقية للنازيّين، والذي كان معارضًا بشدّةٍ للنّظام وقتها. فما كان له من نصيبٍ إلّا التعذيب حتى الموت. لم أشأ أنْ أكون عبئًا ثقيلًا عليهما فرحت أبحث عن عملٍ يساعدني على تلبية احتياجاتي، ولأخرج من روتين اليوم المملّ من بين جدران ذلك المنزل الذي احتلت أحد أركانه مكتبة ثريّة، ضمتّ كتبًا بمختلف لغات العالم. اكتسبت منها مهاراتٍ وتعلّمت منها سلاسة النّطق واللّغة، فأصبحت بارعةً فيها وأتقنها بشكلٍ جيّد.

*

 دخل مارك محلًّا ليشتري علبة سجائرٍ، فخطفتْ أنظاره برقّتها. إنّها هي التي عبرت الحدود ذلك اليوم، يحاور نفسه. ثم أردف قائلًا: كيف لي أن أنْساها وذاكرتي تعجّ بها وحدها، من وقتها وأنا أبحث عنها وعندما كاد اليأس يدركني انقذتني علبة السّجائر. بقي متسمّرًا في مكانه إلى أن سألتْه والابتسامة تكشف عن ثغرها: كيف وصلت إليّ؟

أجابها: أنا الذي قلبه مثل سفينة نوحٍ، يبحث عن جبل أرارات المقدّس (1) في عينيك من يوم أخذني طوفانها وها قد وجدت المستقرّ.

جدّتي لماذا انقطعت رسائلك كلّ تلك المدّة؟، ما الذي حصل بعد ذلك؟ سألتْها حفيدتها باحثةً عن التفاصيل لتكمل قصّتها التي هي بصدد كتابتها.

ضحكتْ الجدّة من إصرار الفتاة على التعمّق في التفاصيل أكثر وتابعت: كنت مستمتعةً بعملي وفي أوقات الرّاحة تراني أخطّ لمارك أحداث يومي حتّى المملّة منها، وكلّ أسبوعٍ تصلني رسالةٌ منه أتفرّس فيها حبّه الذي كان يعطيني دافعًا قويًّا للبقاء في أرضٍ غير أرضي وبدوري كنت أراسله. حتّى دخل جون ذات يومٍ، وصرّح لي أنّه معجبٌ بي، فهو كان ينتظر هكذا فرصة أكون فيها منكسرة الأجنحة. في كلّ مكانٍ كنْت أراه يلاحقني، ولا يتركني وشأني. كان يتودّد كثيرًا إليّ بالرغم من عروضه المغرية التي لم أعرها أي اهتمامٍ. لقد كانت أكبر فاجعةٍ مررت بها عندما جيء إليّ برفاتٍ وقيل لي: هذا رفات مارك. خارت قواي وانهرت باكيّةً، لم أعد أعرف ماذا سأفعل وأنّى لي ملجأ وقتها. في داخلي كنت مؤمنةً أنّه على قيد الحياة، لكن كنت ضعيفةً ووحيدةً كصرْحٍ تهاوت أحجاره بعد أنْ عمّر لقرونٍ، لا تسْكنه إلّا أطياف الذّكريات مسْتأنسًا الفراغ كلحنٍ حزينٍ يعزف على آلة الدودوك (2). حملت كلّ ما يذكّرني به وهربت إلى مدينةٍ أخرى. أختلي بقلبي فيها وأرعى مشاعري تجاه مارك كوليدٍ بقي برحمي ولم يشأْ الانعتاق من داخل أعماقي. لم أجد إلّا أنْ أشتغلً راقصةً وأتحمل همزات الثّملين وتحرّشهم؛ كبتهم الذي يفيض مع الكؤوس كنت أتجاهله بضحكاتٍ مصطنعةٍ. لكن واصلت كتابة الرّسائل محتفظةً بها لنفسي ومقتنعةً أنّ القدر سيجمعني بمارك مرّةً أخرى؛ هي حجتي الوحيدة أمامه. لكنّ الظّروف كانتْ أقوى من فتاةٍ لاجئةٍ مثلي.

*

شرب مارك كأسًا ثانيةً، وبدا مستمتعًا بالعرض أمامه. رقصٌ شرقيٌّ ذكّره بمأساته وحنينه الذي لم يهدأ، كلّ شيءٍ يذكّره بها. كانت تغطّي وجهها برداءٍ كاشفةً عيْنيْها فقط. الجسد والحركات نفسها، فهو يحفظها- لون الشّعر نفسه الذي تلحّف بجدائله- العيون التي استقرّت فيها سفينته ذات يومٍ لا يمكن أن يخطئها. أمطره وابلٌ من الاسئلة، أ يعقل أن تكون هي؟ لماذا ابتعدتْ عنّي كلّ هذه المدة؟ هي تزوّجت وعادت إلى موطنها كما قيل لي. وها هو اليوم يرى قصّة حبّه تتساقط بين أردافها. كانتْ تقترب منه غير مصدّقة ما تراه، كانتْ تقترب أكثر فأكثر والدّموع تنهمر من عينيها. حتى ارتمت بين ذراعيه، وهذا آخر ما كانت تتذكّره ليلتها.

ــ جدّتي، ماذا حصل بعد ذلك؟

ــ حبٌّ نحت بقلبيْنا كما ينحت حجر الخاشكار (3) أبديٌّ ولا يمكن أن يموت.

 

هوامش

  1. جبل أرارات هو رمز دولة أرمينيا ودلالة على الأرض المقدسة حيث استقرت سفينة نوح بعد 150 يومًا من الطوفان، وفق ما جاء في الكتاب المقدس.
  2. آلة عزف أرمنيّة.
  3. رمز الثقافة الوطنية في أرمينيا هو الخاشكار، أو فن نحت الصليب في الحجر، الذي يمارسه الأرمن وحدهم منذ القرن الرابع، مباشرة بعد أن اعتنقت البلاد الديانة المسيحية، وكانت الأولى في اعتناقها هذه الديانة في التاريخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أن أخرج الذكريات من صناديقها

في اليوم الذي أسكن فيه وحدي