29-يوليو-2019

إيغون شيلي/ النمسا

 

أنا ابن بلادك البعيدة، أنا ابن التعب في وجوه المارة والغرباء، وأنا ابن خيط الفجر ينسدل مع روائح الحشيش والبيرة معتقةً من ليلة انتهت بالانتشاء، وأنا الباحث عن كل معنى في الأبجديات الغريبة.

ستائر لا تحركها سوى الريح ستائر حرب، وبيوت فارغة، وأهل رحلوا، وصفير يقتلع الجبال التي أحاطتنا، كنا مفجوعين بالهزيمة، ومختبئين خوفًا من موت محتّم، ولم نعرف وجه البلاد المدمرة إلى أن وجدنا الأبواب تغلق في وجوهنا، ونوافذ مكسورة تطل على الخراب، وجيوش تصوب البنادق نحو رؤوسنا، في ذات الليلة كنا نطل على الخراب الذي يعتمر في نفوسنا، كنا نعرف أنه سيغدو صرحا عملاقا على حافة الانهيار.

بشفاه تنطق لغة جديدة، تعلمت أن أحبك، تعلمت أن أشتاق لك، وأن أخرج الذكريات من صناديقها كلما ملأ البكاء كأسنا، تعلمت أيضًا ألا ينفذ مخزوني من الكتمان، وأن أبقي لسري ولجسدي ما لم يكن لك فيه، أصبحت أكثر نضجًا، أكثر هدوءًا، وصار قلبي ينبض لأشياء لم تكن تعنيه، أصبحت أقل غضبًا، أقل خوفًا، وأكثر إدمانًا بالطبع على كل الأشياء التي يمكن لها قتلي.

كنت أريد وشمًا بشكل الغيوم، يمطر ثم يرحل، لكن قلبي كان منهكا من ثقل المعاني، فاخترت الرحيل؛ اسماً لكل عذابات البشر، كنت أحب السفر، ليس ذلك السفر المعرفي المصحوب بالتأمل واكتشاف الشعوب، ولا بحثًا عن أفق أبعد، كان سفرًا محملًا بحزن الأغنيات، وقوده الملل الطويل على عتبات السهر، كان سفرًا يبحث عن عناق، وعن عيون لا تخرج منها رائحة الحروب.

يخاطبني كل يوم غريب في المرآة، يطرح أسئلة غريبة مثل من أنا؟ ماذا أفعل وكيف أكون؟ أريد أن أقول له دومًا أغرب عن وجهي، لا أطيق سماعك، ولا أعرف أجوبة لتساؤلاتك غير المنتهية.

ـ ستكون غدًا أجمل، لست وحدك في هذا الخراب، هل صيّرك الحب خيمة؟ هل صرت لحنًا هاربًا من كل أغنية؟ أو نهرًا يشعر بالضجر؟

ـ صرت ليلا يسكنه خوف الحكايات، وخيمة تعوي في صحراء خاوية، وقشة تطوف في فيضان العالم.

تمرين بي، مثل صدفة مختبئة في وجوه الغرباء، ومثل خيط شمس يضرب خدود النائمين، مثل تلويحة الغرباء من نافذة قطار يبتعد، ومثل كل النساء اللاتي يشبهنك ثم يصبنني بالخيبة، تمرين مثل خطيئة، أرتكبها كل يوم باكتشاف جديد، كأنك الدهشة كأنك غمزة الحياة، تمرين اليوم وغدًا، تمرين حقيقة ووهمًا، أنت خطأي، والأخطاء التي أحب أكررها مرتين.

ما المعنى من فعل أشياء كنا نحبها معا؟ ما الفائدة؟

لا شيء، وقوف على أطلال آخر ما لمست من جسدك، ومحاولات يائسة للإقلاع عن التدخين، والباقي حكي فاضي.

كان اسمك جهة القلب، معرفًا بكل تلك المسافات، وكنت أنا حزينًا ووحيدًا مثل نافذة لا تحركين ستائرها، نافذة حربٍ، نافذة اقتلاع.

أنا لا أنسى المجازر التي كنت شاهدًا عليها، هي أول ما يظهر حين أغمض، وهي أول ما أريد أن أنساه حين أبصر، ولم يعن لي هذا في يوم من الأيام اضطرابًا أريد أن أتعافى منه، أو جرحًا أريد له أن يندمل، ليس لأن لون الدماء عن قرب أحمر نازف، ولا لأن رائحة اللحم المشوي معششة في أنفي، بل لأن من ماتوا لم يأخذوا فرصة لصراخ أخير، ومن نجوا فقدوا قدرتهم على البكاء، وظلت عيونهم مفتوحة، محدقة في الغبار والبارود المتناثر في الهواء، لحظة من فراغ المعنى، تجمد الزمن ربما أو امتد أبدًا، لا فرق، لكنها ذات العيون ظلت مفتوحة، وبقيت أنا، مصابًا بالذكرى.

لم أعد أتساءل ما الذي كنت تعنيه لي، ولا إلى أين يأخذني معك الضوء أو العتمة، لكني ما أدركه الآن أنك أنت بقيت هنا، جهة القلب، صورة تعادل المذبحة، جمالٌ يوازن كفة القباحة والتوحش، حين ظلت تلك العيون محدقة في الأبد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نجمة على ركبتك

الجياع يسيرون على الرصيف كأعقاب سجائر