04-مارس-2018

عمران يونس/ سوريا

أنا السجينُ في رقمِ هُويّةٍ أصدره الاحتلال، ليُعرّفني به كما الآخرينَ في إضبارة عبريةٍ إرهابيًّا مُحتملًا لا يستحقّ الحياة، سجينُ الطين والهواءِ والنار والشتاء، ومنذ اغتالَ الغرباءُ قبل ميلادي حُريّة البلاد وأنا سجين الحرب والسلام.

لستُ سوى رقمٍ آخرَ، عشوائيٍّ، مُهملٍ، وُلدَ بلا خيارٍ في تحديد مكان ميلاده، وإلى من ينتسب، أكره، وأحبّ، وأطمحُ، وأضعف، وأهوى كيفما تهوى الفراشاتُ المضيئة السابحة في العتمةِ رحابة الفضاء، وأخافُ كإنسانٍ طبيعي أن يُسرقَ العيشُ من الأيام، وينهشني القلقُ من مصيرٍ مجهولٍ تحتشدُ أداوته في هذه البقعة من العالم بأكثرَ مما تحتمل.

وُلدتُ في طريقِ الدم، ورضعتُ الوعدَ بقيامة الحلم المستحيل من رماد الظلام المحترقِ بالنّور، نورِ الانتصارِ، ودحضِ الأفكارِ المارقةِ من صفحةٍ أقحمَت عنوة في كتبنا، وذاكرة أجيال ما كان خيارها أن تعاشر شذوذ الوقتِ في معالجة أرضنا، صفحةٍ ما زالت تُتنج سطورًا من ألم.

الحربُ أشلاءُ موتى وتراثٍ تسيلُ منها دموعنا وغصّات البكاء، ودماءٌ تُغطّي رصيفَ يومنا كُلّما تمرّد فينا وبنا غبارُ أرضٍ وُلدت منذ عهود، والحربُ بكاء الشتاءِ العاجزِ عن مسحِ الخوفِ في عيني طفلٍ رفع الكفّ في ظلامٍ بلا والدين قُتلهما الجوعُ للعدل والأمان، الحربُ تُجرّدنا من كلّ شيء سوى كرامة الحق بالبقاءِ على أريكةٍ أمام التلفاز، وإلى طاولة في مقهى صغيرٍ وسطَ المدينة كي نُمارسَ لُعبة الورقِ بلا اكتراثٍ لسقوطِ الوقتِ في اختبارِ وعينا لإرادة الحياة.

لم تكفِهم حربٌ واحدةٌ لجعلنا لقمة سائغة لفمِ تلك البندقية، بل حروبٌ متتالية سالت فيها أجسادنا، وما تبقى سِلمٌ يستنزف الذاكرة، والهويّة، وندافع فيه عن أسلوبنا في الحياة. نكبةٌ، ونكسة، وثورة، وانتفاضات متتالية، خرجتُ من الثانية في سلسلتها حُطامًا يبحثُ عن أيّ شيءٍ يبثّ فيه الرغبة بالحياة، فوقعتً في الحبّ.

حدث الأمر في فترة قصيرة من سلام أقصتنا من ضميرِ العالم، وقتها تركتنا الحرب لنلتقط بعض الأنفاسِ الملوّثة بالقهر، كنتُ أبحثُ كالآخرين عمّا يعيدُ إلى روحي شرارة العيشِ، وإلى وجهي ملامحه، وضَوءَ الحياة الكريمة، فأنارَ لي الحبُّ الطريقَ، حتّى عادَ مكرُ الحربِ مرّة أخرى فاغتالَني وردّ إلى التيه ملامحي.

كانت شظيّة واحدة أسقطتني في بحرِ مائجٍ من حياة مضطربة تهوي في كأسٍ خمرٍ أحتسي منها خدرًا يكبّلُ أعصابًا مُهترئة، لو تُركت على حالها لقتلتني ألوف المرّات بلا موت، ترى كيفَ يكون السلامُ سلامًا بلا حُريّة؟ الغرباءُ أجادوا تحويله إلى سجنٍ نبحثُ فيه عن لُقمة العيشِ في أضيق الخيارات، وأصعب المهمات، لقمةِ عيشٍ تُفسدها الحواجز العسكرية، والقلق من دوريّة ليليّة تنتزعنا عنوة من دفء الأهل والأحبة، السلامُ في حقيقة الأمر جُثة أخرى أوقعتها البندقية.

كم أكلت الحربُ من ذكريات، وناس! وكم بعثت ألوفَ الأنبياء، أنبياءِ العذاب والصبر والألم! كانت من أحبّ فتاة تحلمُ كما كلّ "صبيّة" أن يكون لنا عرسٌ بلا نظير، وأن يجري حبّنا بلا انقطاعٍ مطرًا في كلّ شتاءٍ، وعرقَ كدّ في كل الفصول، وآه لو أدركت تلك الشظيّة ما قتلت من الأحلام، لانتحرت في الهواء قبل أن تصيب الأيامَ بالفوضوية، لا أزعمُ أنّي الراهبُ المُنعزل في ذاكرةِ الموت، لكنّني بحثتُ عن فتاتي في كلّ خبرٍ في صحيفة، وفي السياسة، وفي الكتابة والثقافة والأدب، وفي الجموحِ، و في رواية سأكتبها بلا نهاية، وفي لعبة الورق، وكأس الخمر، وفي أجسادِ النساءِ، وفي قلوبٍ حطّمتها بلا جدوى، غمرتُ نفسيَ بكلّ الخطايا مرارًا وتكرارًا كي أطفئ نارًا تشتعل في تلك الشظيّة بلا جدوى، حتى صاحَ الرّعدُ في قلبي ذاتَ ليلةٍ توارى فيها القمر خلف غيومٍ رماديّة تسيل في كأسي ثمالة حمراءَ، أنتَ، أنتَ الشظيّة!

أتكفي الحربُ حقّا لتُقتلَ فينا رغبة البقاء؟ نحن أسرى في هويّتنا، في طينٍ تُثيرُ حزنه أحذية الجنودِ، وفي مطرٍ نبحثُ له عن الخلاص، وفي نارٍ تكوي نفسها كمدًا كّلّما أشعلها الغرباء في ترابنا والأشجار، وكيف لا نكون كذلك، ومُعظم أرضنا محظورة علينا، وفضاؤنا مقيّد في الحرب وفي السلام؟ نحن أسرى السلامِ لمّا صار حربًا أخرى تدفع المكرَ بالثقافة، وتُجالدُ التزييف بالدبكة والأغنية، وبضادٍ على قبّة معبدٍ تُنادي على اللغة وراء الحدود أن يخيطَ الشعرُ جُرحًا في التاريخ علّها تستعيدُ جذرَ الكرامة.

أما آنَ لهذه الرواية أن تنتهي بحبكةٍ من مصير؟ لم تكن صدفةً أن قيّدت يداي في تلك الليلة كي أكون نزيلَ العتمة في زنزانةٍ نُعدّ فيها كلّ يومٍ مرّتين او ثلاثًا، زنزانةٍ أدهنُها منذ شهورٍ كلّ يومٍ بلونٍ من ألوان الأمل، غيّرتُ أثاثها مرات لا أذكر عددها، ووضعتُ في ركنها القصيّ طاولة وأوراقًا للكتابة، علّني أُفصح للورق عمّا تُخبئ الزنزانة في جسدي من عِلل، بالأمسِ وسّعتُ نافذتها الضيّقة، أنزلتها مترًا، وأزحتها إلى منتصف الجدار، أمّا قُضبانها ففككتها وصنعتُ منها كرسيّا حملني في منتصف المكان أمام النافذة، لمّا مرّت طفلة لوّحت لي بالسلام، وبائع القهوة وراءها يُعدّ تلك القهوة التي أحبّ بينما يمضي الناسُ إلى حياتهم، كنت أراقبهم وأنا أتحيّن الفرصة علّ أحدهم يكون صديقًا يتذكّرني، أو قريبًا يحملُ إليّ أشواقَ المحبوسينَ خارج زنزانتي...!

كان مذاقُ تلك القهوةِ يتسلّل إلى فمي، وتلك النسائمُ تُداعبُ وجهيَ فتُثيرُ فيّ النعاس، أغمضتُ عينيّ لبضع ثوانٍ قبل أن أفتحهما في اللحظة التي مرّت أمّي من أمام النافذة يحمل مُحيّاها ابتسامات الربيع، ويُطلق ثغرها عبارات الرضا، ورودًا حمراء وبيضاء تناثرت في الفضاء من سلّة قشٍّ حملتها بين ذراعيها، سلّةٍ كانت مهدي ذات يوم.

ما فعلت أمّي هذا المساء؟ أرانا نتحلّق حولها، نحن الأربعة وزوجات إخوتي، نتبادل مختلف الأحاديث الدافئة بينما تُقاطعُ اندماجَ الروحِ في دفءِ المكان بنظرة تتأمل بها لحيتي البيضاءَ وعيناها تلومانني "أنت البكر، بِكْريَ العازب أما آنَ لك أن تتزوج"...! سبعةٌ وثلاثونَ عناءً قضيتها وإخوتي يفرّون أمامي صوب حياةٍ تصبغ شعرَ أمّي ببياض الوحدة مُنذُ غابَ والدي في حزني الدفين، أتُراني فعلتُ ما يُبيحُ لي مُناكدةَ الوقتِ الذاهب ورائي بشيءٍ من عزاء؟

هكذا انتُزعتُ من إرادتي وجذري، ونفاني الجنود من وحدةٍ اخترتها إلى العزلِ القسريّ في ليلةٍ عزّ عليّ فيها فراق الأوراقِ، وكرسيّ إلى طاولةٍ تحملُ روايةً لم تُنجز بعدُ، روايةً ربّما أكلها الوقتُ، وربما فرّت مع ما خلّفتُ ورائي من كتبٍ، وتلك الدنانير الثلاثمئة، وعلبة سجائري وفنجان قهوة فرغت من إعداده لمّا اقتحمَت تلك البنادقُ صمتَ منزلي وسلامه، وما الصمتُ سوى المنفى الاختياري، ومُختبر الحياة في عقلٍ يبني العالم ويفككه مرارًا وتكرارًا، وينتشي بمسحوق التفاصيل المنثور على وجع البحث عن إرادة التغيير في ثنايا التضليل، هو عقلُكَ حين يأمر بمحاصرة حربك والسلام، وسجّانٌ، هو أنت في الحقيقة، لبركان المشاعر الحبيسة في قلبٍ ما تهاوت جدرانه تحت وطأة الوحدة، قلبٍ يخشى أن يفرّ إلى حافظة الأسرار والذكريات المنسيّة هناك، في أبعد صندوق في عقلٍ أحكمتَ بناءَ ممراته وأغلقت أبوابها بمفاتيح ألقيتها بعيدًا في رئتيك حيث يقطن عقاب السماء.

السجنُ لا يمحو الذاكرة، لا يكسر العلاقة مع الأشياءِ، لكنّه يُحيل الصمتَ إلى مُناورةٍ أخرى، ويُطلقُ ما في صناديقِ الذاكرة، كأن أرتدي بعد قليلٍ قميصي السماويّ المفضل، وسروال الجينز الكحليّ، وحذائي البنيّ الذي سأمسح عنه الغبار وأضعه في قدميّ لأفرّ من هذه النافذة، سأشتري قهوة من ذلك البائع، وأمضي في شارع العاشقينَ أدندن لحنًا أحبّه، لحنًا سينتهي في حضن أمّي بقبلةِ اللقاء... إنّ الساسة ومن يقودون العالم يعرفون معنى السجن، لكنّهم لا يشعرون به، والفرق ساذجٌ لكنّه أصيل، فالشعورُ انغماسُ الوُجدان في المحنة والتجربة وقصّة لن تُذكرَ وهم يتجاوزون ببرودٍ حقّي في السؤال عن السبب، أيّ نصّ أو حبٍّ أو سلوكٍ حجبني هنا وراء حدود المعرفة والخبر؟ من عدّ منهم ثوانيَّ المهدورةَ هنا في عقابِ الجُدرانِ لجرأة الكلمات؟ من؟

سيأتي السّجان بعد قليل ليفتّش عن قلمي، سينقّبُ في جسدي، وفي مرضٍ يستوطنني منذ شهرين، سيدفعني، وسيرفع هراوته مرّة ومرّتين، كي يكسرَ فيّ إرادة إضرابٍ نخوضه هنا منذ فترةٍ جاوزت قُدرة الحساب، لا أذكر بدايتها سوى أنّني أشبع من إفراغِ الصّبر والأمل على السطور، سطورٍ ستخرجُ من الأسرِ قبلي بأيامٍ طويلة، وآخرها سيشهدُ أنّي لن أموت هنا اليوم، وأنّ نارَ الحربِ في بلادي يوقدها دمُ السلام، لكنها ستأكل يومًا كل أرقام الهويّات، حينَ ينحازُ الوقتُ إلينا هنا في زنازينَ تُحاصرُنا والسلام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هارولد بينتر.. قصائد فترة المرض

المعري ثلاثي الأبعاد.. وبورخيس وأبو نواس