15-ديسمبر-2015

(بلال جاويش/الأناضول/Getty)

"عملنا كالدوامة، الدولة استخدمتنا واستقطبتنا كخارجين عن القانون، كهاربين من العدالة، لتحولنا إلى رجال دولة عملهم الوحيد هو المراقبة والوشي عمَّن يخل بالقانون. وبالطبع لا يهم المخفر مستوى المقبوض عليه إن كان مجرمًا، سارقًا، أو مدمن مخدرات، فأنا أتلقى مكافأة قيمتها عشرون دولارًا على الرأس، وأحيانًا أتعرض للخطر أو لإطلاق نار مباشر من أجل القبض على المطلوب ليس فقط لأن هذه أولى مهماتي كرجل أمن، بل أيضًا لأني أجمع المكافأة شهريًا وقد يصل المبلغ لمئات الدولارات الزائدة شهريًا".

هذه الشهادة تعود لأحد من يُسمون بالمخبرين في بيروت. وهي تدل على أن تلك المهنة تنطوي تحت إطارين: الإطار القانوني، وهو أمني وعسكري، ومن جهة أخرى إطار اجتماعي، فممارسها شخص غير مؤتمن اجتماعيًا، فبالنهاية المخبر يعادل الواشي، ولا أحد يثق أو يحب الواشي.

أن تصبح مخبرًا

بعض المخبرين يتلقى مكافأة تقدّر بعشرين دولارًا على الرأس فقط

علينا أن نفرق بين المخبر والتحرّي ورجل الاستخبارات. فالتحرّي ورجل الاستخبارات هي مراتب أمنية في سلك قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني، وهؤلاء الذين ينضمون إلى تلك الفروع يخضعون لفحصٍ طبي ومدني وعسكري، وعلى بطاقاتٍ عسكرية وأمنية، تكون غالبًا للتشبيح، لا لتسهيل مهامهم الأمنية. أما المخبر، فوصفه يأتي في التحقيق التالي.

أسعار المخبرين
في التالي مقابلات مع مواطنين اندمجوا بالسلك المخابراتي وأصبحوا يُسَمون بمخبرين.

وجب التنويه: (جميع من خاضوا تجربة المقابلة الصحافية للمرة الأولى من مخبرين، كانوا بأقصى مواضعهم راحةً نفسيًا، جسديًا ومعنويًا. وجميع من سيُذكرون في هذا التحقيق الصحفي كانوا على عِلم وخبر بأنني أنوي نشر هذا التحقيق الصحفي).

المخبر "م. ع." يخبرنا عن تجربته بالمقابلة التالية:

س: كيف كانت البداية؟ هل تقدمت بطلب عمل لتصبح مخبرًا؟

ج: لا أحد يتقدم بطلب عمل ليُصبح مخبرًا، فتلك المهنة هي كالعتّال في ورشة البناء، يجب أن تتوافر عندك بعض الصفات لكي تبدأ بعملك الأمني. فالعتّال على سبيل المثال عليه أن يكون ذا بنية جسدية تتحمل الأوزان الثقيلة ولا يخاف من المرتفعات الخطيرة والأماكن الوعرة. وينطبق الشيء ذاته على المخبر، فعلى الأخير أن يكون ذا شخصية حذرة ودقيقة وهادئة كي يحصل على المعلومات التي يحتاجها جهاز الأمن بدون إرباك.

س: ليس هناك أي خبرة أكاديمية ضرورية للحصول على تلك الوظيفة، لكن من يديرك؟ من وظفك؟ من يعطيك راتبك؟

ج: سأروي لك قصتي باختصار. في عام 2011 كنت أعمل في أحد معامل الخشب في منطقة الأوزاعي في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان بالقرب منّا يتجمع تجار مخدرات كل ليلة. كنت أنام في المعمل لأنني لم أكن أمتلك المال الكافي لكي استأجر شقةً. بعد فترة، تقرّب منّي أحد تجار المخدرات وأقنعني بوظيفة إضافية وهي الترويج في منطقة الأوزاعي لبعض الأصدقاء الذين كانوا يمرون أحيانًا ليشتروا الكوكايين الرخيص. لكن بعد حين، اكتشفت أن أحد أصدقائي المخدرين هو "مخبر". وقام هذا الأخير بتسليم اسمي ومكان عملي لجهاز فرع المعلومات اللبناني (الشرطة السرّية المخابراتية اللبنانية التابعة لقوى الأمن الداخلي).

بعد اعتقالي لمدّة ستة أيام في مخفر حبيش في بيروت، كان أمامي خياران، الأول أن أُسجن لمدّة سنتين في سجن رومية ودفع مبلغ قدره عشرة آلاف دولار، أو أن ألتحق بصفوف المخبرين وأبدأ بالعمل الأمني-المدني كمساهم بالبحث والتحرّي عن مروّجي ومتعاطي المخدرات في منطقة الأوزاعي. بالطبع لم أكن سأختار السجن وأحسست بالمذلّة حين خُيِرتُ بين العمل في جهازٍ أمني بتلك الطريقة أو السجن في جهنم رومية. لو كنت إسرائيليًا في تل أبيب وخُيِرت بين العمل المخابراتي والسجن بسبب المخدرات، لكنت اخترت السجن بسبب التأهيل الذي من الممكن أن ألقاه. لكن سجن رومية هو أشبه بجحيم وكنت بحاجة ماسة للمال.

س: هل يعني ذلك أنك تشعر بالندم لأنك لم تُسجن؟ هل أُجبرت على العمل كمخبر كي لا تواجه ما تُسميه بجهنم؟

ج: أشعر بالندم الشديد أنني لم أواجه السجن واضطررت لخوض تجربة رجل أمن خفيّ لا يمتلك حتى بطاقة أمنية، أشعر بالذلّ لأنني اضطررت للعمل في مجال المخابرات، وأن أسمى "مخبر". لا أخفي عنك أنني كنت أتعس شخص على وجه الأرض حين كنت أعمل بالخشب لكنني كنت أسعد. أخاف من الشيئين، العمل كمخبر لأن هذا الأمر أضاع أصدقائي وعائلتي من إطار وجودي. لا يثق أحد بي منذ أن بدأ الجميع بالإشارةِ إليّ والقول "هذا المخبر، لا تتكلموا أمامه". ومن جهة أخرى، لم أتحمل فكرة أن أُسجن في أكثر السجون بشاعةً كسجن رومية المعروف بقرفه. لا أتحمل فكرة أن أكون في الزنزانة نفسها مع قتلة وإرهابيين وتجّار مخدرات.

س: ما هو راتبك الشهري؟ كيف تجني المال كمخبر؟

ج:عليك أن تعلم أنه لا يوجد أي قانون رواتب في الدولة للمخبرين، بل إن المخبر لا يُعتبر ذا مكانة أمنية أو عسكرية، ولكن يُكرمنا مسؤولو المخافر بمبالغ رمزية جدًا حين نُسَلِم المدعي عليه أو المطلوب بعد البحث والتحري مع فريق فرع المعلومات أو ما يُسمى بمخابرات الدولة. وإن جمعت جميع المكافآت الشهرية التي من الإمكان أن نحصل عليها كمخبرين في الدولة لن تتعدى المائتين وخمسين دولارًا شهريًا، وستكون مجموع معدل العشر مطلوبين الذين تم القبض عليهم.

كان والد المخبر يعمل في فرع المعلومات فعرض عليه أن يكون مخبرًا لكنه هرب لاحقًا

س: هل وُضعت في موقف حرج خلال عملك؟ هل أُجبرتَ على الوشاية بأحد أقربائك/أصدقائك؟

ج: يمكنك دائمًا أن تغض النظر بالعمل إن كان استخباراتيًا أو أي مهنة أخرى. بالطبع لن أضع أحدًا من معارفي في موقفٍ حرج مع الدولة، خصوصًا أن الدولة اللبنانية مبنية على الفساد.

س: أين ترى نفسك بعد عشر سنوات؟

ج: أريد الهروب من لبنان، أنا لست بمجرم أو بمخبر إن كان لي خيار. أريد العلم والحياة الأفضل وعائلة سعيدة، وإن لم يتحقق الأمر قريبًا، فسأغادر الحياة بفعل يدي.


المخبر السابق ح. ز. يخبرنا عن تجربته كمخبر سابق بالمقابلة التالية:

س: كيف انخرطت بالعمل المخابراتي؟ كيف أصبحت مخبرًا؟

ج: ليس عن جدارة أبدًا، لم أتقدم بطلب أو بامتحان دخول أو انتساب، والدي يعمل في جهاز فرع المعلومات في بيروت، وبعد رسوبي في شهادة البكالوريا في المدرسة، أجبرت على العمل كمخبر. وفي 27 شباط/فبراير عام 2011 كانت بدايتي كمخبر خلال مظاهرة ما يُسمى بحملة "إسقاط النظام الطائفي في لبنان". وكانت مهمتي جمع أسماء ناشطين ومن يُمارس الشغب منهم. مع العلم أنها كانت مظاهرة سلمية جدًا، تمكنت من جمع اسم واحد وكان لإحدى الناشطات.

س: هل ما زلت تمارس مهنتك الأمنية؟

ج: بعد عام من مظاهرة "إسقاط النظام الطائفي في لبنان" قمت بترك السلك لأسبابٍ كثيرة ومنها أنني حصلت على فرصة عمل كمساعدٍ في شركة مأكولات في المملكة العربية السعودية، وأيضًا لأنني لم أكن مرتاحًا لفكرة أن مهنتي تتضمن الوشي والخطر إن تم كشفي.

س: ما المضايقات التي تعرضت لها بعد استقالتك؟

ج: لم أتعرض لأي مضايقات. لم أكن من الذين انتسبوا إلى المهنة لأن سجلاتهم العدلية ملطخة بالجنح والجنايات. واجهت والدي وقلت له لا أريد أن أكون مخبرًا وبعد خمسة أيام سافرت إلى السعودية.


أما المخبر ط. س. يخبرنا عن تجربته بالمقابلة التالية:

س:أخبرني عن تاريخك في جهاز المخابرات اللبنانية

ج: أنا لست مُخبرًا، فأنا موظف في فرع المعلومات اللبنانية برتبة "تحري" ومن مهامي البحث والتحرّي عن مطلوبين في شؤون المخدرات من متعاطي ومروجي وتجّار مخدرات في منطقة بيروت الكبرى. وأيضًا من مهامي المشاركة في مداهمات فرع المعلومات وفوج مكافحة المخدرات في قوى الأمن الداخلي في بيروت. بدأ عملي كتحرّ حين انتسبت إلى قوى الأمن الداخلي بعد تخرجي من الثانوية، واكتشفت أنني أهوى العمل الاستخباراتي، فانتسبت بعد حين إلى فرع المعلومات عام 2010.

س: عندما تتحدث عن عمل استخباراتي أتعني أن حلمك كان مكافحة المخدرات؟

ج: كلا، كنت كجميع الشباب الذي يهوى فكرة العمل في ميدان الأمن، أتخيل جهاز المخابرات كعالم "جيمس بوند". تخيّلت شيئًا شيقًا أكثر، كأن نتعلم أساليب مراقبة وتحرٍ حديثة، كأن نخترق أجهزة الاتصالات وأن نتعلم التصوير الاحترافي لنلتقط الأدلة عن الجنايات. لكن اكتشفت بعد حين أن عملي هو المراقبة، التحري، الملاحقة والقبض على المتهمين.

س: ما هو الحدث الأكثر خطورةً الذي شاركت به؟

ج: صراحةً، أعلم أنك تتوقع جوابًا مثل "مكافحة خلية أو عصابة تجارة أسلحة أو مخدرات"، لكن المرّة الأخيرة التي أحسست فيها بالخوف، كانت خلال ما يُسمى الآن "بانتفاضة 22 آب/أغسطس 2015"، حينها بدأ المخبرون والتحريون بأخذ الحذر الشديد لأن المعتصمين والمتظاهرين لم يعودوا سلميين وأصبح كل شيء ممكنًا. كانت المرّة الأولى التي أرى فيها قنابل مسيّلة للدموع ورصاص حيّ ومطاطي، وكانت أيضًا المرة الأولى التي أرى فيها حشدًا كبيرًا من الغاضبين من الدولة. وحينها، نعتني أحدهم بالتحرّي لأنه شعر بأني ألتزم الصمت وأكتفي بالتقاط الصور. يومها أحسست بأني فشلت مهنيًا إلى حدٍّ ما.

س: هل تشعر بالندم لأنك عملت وتعمل كتحرّ؟

ج:"هالشغلة وسخة كتير، لا صديق لنا في تلك المهنة، لكن علينا أن نعيش".


لا أنكر للقارئ أن خلال العمل على هذا التحقيق كنت أشعر بالخوف من فكرة التحقيق. فكما قال التحري "ط. س." أن تلك المهنة لا تمت بصلة إلى العدالة أحيانًا، فهو بالحرف قال "هالشغلة وسخة كتير"، لكن كان عليَّ أن أبدأ بهذا التحقيق بعدما توافرت لي الفرصة أن أقوم بتسجيل تلك المقابلات حصريًا.

أحس المخبر بالخوف خلال ما يُسمى الأن "بانتفاضة 22 آب/أغسطس 2015" حينها بدأ المخبرون والتحريون بأخذ الحذر الشديد

هم الحائط الذي يستمع إلى كل شيء، والملعقة التي تذوق كلّ طعام، والمسجلة التي توثق أحاديث المارة. هم في كل مكان وفي كل زمان ولا يهابون شيئًا ولا يحدهم أي إحساس. يرتدون الثياب الرخيصة ذاتها التي نشتريها خلال العروضات، يحتسون فنجان القهوة ويضعون القبعة وينتظرون أحدهم في المظاهرة أن يفتعل شغبًا. هم أيضًا الذين لا يصرخون في المظاهرات ويلتقطون الصور. لا يتكلمون، لا يسألونكم عن شيء، فهم يعلمون بكلّ شيء.

هم في كل مكان، حتى أنهم أمامي الآن في المقهى الذي أرتاده لأرسل مقالاتي إلى موقع "الترا صوت" ينتظرون أن أقول شيئًا يدلهم على أنه بإمكاني أن أكون خارقًا للقانون، وهم حتى بمهنتهم لا يذكرون في قانون العمل. فمن الفاسد؟


جميع الذين شاركوا في هذا التحقيق من شخصيات أمنية ومدنية، ومخبرين ورجال أمن وتحريين، وجميع من ذُكر في هذا التحقيق هم تحت إطار السرية الصحفية، ولن تكشف أسماؤهم أو عناوينهم أو هوياتهم تحت أي ضغط نفسي، جسدي أو أي تهديد مباشر أو غير مباشر.

اقرأ/ي أيضًا:
لبنان.. الدولة ومخدرات أبو سلة
نصف سكان غزة تقريبًا عاطلون عن العمل