04-سبتمبر-2022
منى فتحي/ مصر

لوحة لـ منى فتحي/ مصر

بعد سبعة أجيال أصبحت الجميزة الهائلة بقرب "عين العذارى" إشارة بارزة لجميع القاصدين إلى تلك المنطقة الوعرة، التي لا تزال مسالكها الغامضة ممرًا قصيرًا بين ثلاث وعشرين قرية نثرت بإهمال تام، خلف أسوار صخرية وأشجار ومساحات من العليق ونباتات دالية غزيرة ومعمرة.

لا أحد يعرف من الذي زرع الجمّيزة وأثار كلّ هذه الزوابع من الخطيئات المتكررة من جيل إلى آخر. الحكايات التي نحتفظ بها كإرث لا يتبدل وتستعاد عشرات المرات في مساء البيوت. جميع الحكايات التي جنحت إلى عشق محرم أو فجور أو موت انتحاري حدثت تحت هذه الجمّيزة. ربّما في جذعها المجوّف الذي يتّسع كغرفة مظلّلة أو في أسفل الصخرة المجاورة التي تنز منه "عين العذارى". جميع الحكايات لا تزال تستعاد دون أن يتغير حرف واحد. أو تسقط إشارة واحدة أو يتبدل اسم واحد باستثناء حكاية بلوزار.

قلت مرة سأحاول أن أتوصل إلى الحكاية عبر معالجة التضارب الذي يقوم بين رواية وأخرى، وحذف كل الإضافات التي تمت وراقبت زيفها عن كثب ثلاثة أجيال متأخرة. إلا أن إصرار بعض الرواة على مشاهداتهم كانت تتلف كلّ شيء. أعدت تأليف قصّة بلوزار أكثر من مرّة ثم اكتشفت أنني وقعت تحت تأثيرات أفكار وأمزجة غير حيادية على الإطلاق. تقول أمي إنها سمعت الحاجة فوزية التي نقلت عن جدتها مباشرة أنه كان يجلس مديرًا ظهره للعين ينظر من شق في أعلى جذع شجرة الجمّيز إلى بساتين الليمون التي بدأت تحتل معظم السهل الساحلي للقرية. وأن الجنيات اللواتي كنّ يرقصن حول العين أنشدن أغنية موتهن للماء. الذي بدأ يتراجع، حين انتهت الأغنية، ثم اختفى هديره في جوف الجبل. تقول أمي تقول الحاجة أنّ بلوزار كان يقيس بإصبعه مساحة الفضاء بين عينيه وبين سياج السرو المرتفع على طرف السهل، حين وقفت وراءه أجمل جنية ووضعت رأسها على أسفل ظهره بينما حرّك هو جسده ببطء، مشى إلى العين ووضع يده فوق منسرب الماء في الصخرة التي أصبحت سوداء.

تقول أمي تقول الحاجة أنّ الماء امتنع عن المسيل، وأنّ قطعة الأرض التي تعرف بالخلة يبست، وأنّ حطب أشجارها لم يشتعل للذين حملوه إلى بيوتهم وأنه ألقي أخيرًا في البحر، صاحب الخلّة الذي عاود زرعها دون جدوى تركها بعد أربعة أعوام لحفيدته وسافر إلى البرازيل.

قلت هذه الحكاية يمكن أن تكون صحيحة لأننا جميعنا رأينا الجنيات يرجعن إلى العين في المناسبات يرقصن ويضعن علامات شهيرة يفسّرها الكبار الذين لهم معهن علاقات حميمة وشاركوهن في تجارات وكشف كنوز أغنتهم إلى الآن. وهي صحيحة لأن المياه التي تراجعت في جوف الجبل تسربت من الجهة الأخرى ثم انحدرت في "وادي أتريف " الذي أقام عليه أبو صفوان مطحنته الشهيرة. وهي صحيحة أيضًا لأننا نعرف كيف هاجر صاحب الخلة واستطاع زوج حفيدته أن يزرعها بعدما أجدبت سبعة عشر عامًا. قلت ذلك ثم تراجعت حين علمت أنّ جدّ الحاجة فوزية كان صاحب الخلة وأنه استلف مرة سبعًا وعشرين ليرة ذهبًا من أحد أصدقائه وتعسّر عليه إيفاؤها فاستثقل نفسه وباعه قطعة الأرض. ثم حين حصل على المال بعد زمن أراد أن يستردّها فرفض صديقه فأوسط أهل الخير، ولكن صديقه أصرّ على الاحتفاظ بها. قلت إنّ الحاجة أرادت أن تنتقم لجدّها فألّفت حكاية الجدب واستنجدت اسم بلوزار.

 شككت أيضًا في الحكاية لأنها تنقل بعض العبارات التي تمت بصلة إلى لغة أهل القرية من الصّور والمجازات التي يستخدمونها هنا، وبدت لي عبارة "أنشدن أغنية موتهن".

كأنها من خيال شاعر ضعيف وأقحمت دون مناسبة إلى عالم لا علاقة له بعصر بلوزار.

قلت أنظر في حكاية العجوز التي نقلت قبل موتها بأيام أنّ بلوزار كان يعود مرة في الشهر وينزل في بيوت منفردة - كان يثق بأصحابها على أطراف القرية. تقول العجوز أنه حين خرج إلى الجمّيزة لم يقصد المخبأ ولكنه أحب أن يرى جنيته ليلى (يقولون أنها هي نفسها التي ثقبت حائط المدرسة ورأت رأسه معلقًا على جذع عامل الباطون في المبنى المجاور) وحين وصل متأخرًا ثلاثة ارباع الساعة وجدها ميتة وسط الجنيات اللواتي كنّ يواصلن رقصهن تحت مطر شديد في ماء "عين العذارى" المثلجة.

 تقول إنّ بلوزار وقع منتحبًا تحت جذع شجرة الجمّيز بينما كانت العاصفة تنذر بشؤم تلك الصّاعقة التي وقعت على تلّة "النبي ساري"، ممتدة في خط مستقيم إلى الجمّيزة التي انفلقت شقين دون أن يقع منها غصن على الأرض.

تقول لا أحد يعرف أين اختفى بلوزار تلك الليلة. يقولون إن الذين جاؤوا في اليوم التالي وجدوا في عباءته المرمدة، تحت طرف جذع شجرة الجميز، فتات "زنبقة حصان" يابسة، وأنهم تأكدوا من موته حين لم يظهر كعادته - منذ ذلك اليوم. قلت يمكن أن تكون هذه الحكاية صحيحة لولا الإضافة الأخيرة التي تتعارض مع حقيقتين لا مجال للشك في صحتهما.

 الأولى مفادها أنّ الصّاعقة ضربت الخط الذي يظهر مستقيمًا وعلى نحو واضح بين الشق الذي أحدثته في وسط الجميزة ورأس تلة "النبي ساري"، وأنها لم تُصِب طرف الجميزة حيث وجدت عباءة بلوزار المرمدة والتي يريدون أن يشيروا بها إلى موته.

والثانية أنّ بلوزار ظهر في معظم المناسبات والكوارث الوطنية التي حدثت بعد هذه الحكاية.