24-أغسطس-2022
إميليو جريكو

لوحة لـإميليو جريكو/إيطاليا

تُحدِّثُ امرأة جارتها أنّ بلوزار ليس اسمه الحقيقي. وأنها حين جاء أوّل مرة إلى بيتها سمعت أحد الذين يرافقونه في أسفل السلّم يناديه باسم طويل ومعقد لم تعد تتذكره الآن. وحين طلب أن يدخل البيت ليختبئ في ذلك العام لم تستطع أن تقول له شيئًا: "بدا كأنه يعرف وأنه قصد البيت عن تفكير مسبق".

قالت: "وحين كان يعود متأخرًا في المساء كنا نسمع صرير الباب ونتأكد أنّه دخل بمفرده إلى الغرفة، بعد قليل تدبّ في الغرفة أصوات حياة ثانية. همهمات بطيئة، لغات لا حصر لها حيوانات أحذية جنود تخبط في وحول مستنقعات، قهقهات نساء، هتافات وخطب في احتفالات حاشدة.

تسأل هل تصدقين أنّ كلّ هذا كان يحدث بعد لحظات من دخوله الغرفة! كل ما كان يحلم به حين ينام، يخرج بلحمه ودمه إلى الغرفة. دخلتُ مرة فوجدته إلى مائدة حافلة بأصدقائه الذين كنا نعرفهم ويترددون معه في بعض الأيام. حاولت أن أسألهم إذا كانوا يريدون شيئًا من المطبخ فلم ينتبه أحد. عرفتُ أنّه يحلم. نظرتُ إليه فوجدته نائمًا على سريره بينما هو يواصل عشاءه إلى المائدة. خفتُ يومها وأيقظت زوجي فلم يكترث. تأكدتُ أنّه كان يعرف صفات هذا الرجل الغريب منذ دخوله البيت.

قالت أيضًا: "حين كان بلوزار يستيقظ من نومه كان يخرج إلى الشرفة. كنتُ أحضر له القهوة، ويجلسُ نصف ساعة مع زوجي قبل أن يغادر".

كنتُ أراهُ في الصباح طبيعيًا وبسيطًا للغاية، أظنُّ أنّني كنت متوهمة. إنّ رتل الدبّابات الذي هدر في غرفته كان مجرد كابوس. القوارب التي كان تعبر النهر قرب سريره لم تكن أكثر من دمى ورقية. 

قالت: "ثمّ أعود لأنتظره في المساءات المتأخرة وأراقبه حتّى ينام. أدخل الغرفة فأراها ملآنة بالطيور والأرانب البرية. 

مرّة أخرى، وجدتُ كتبًا مزيّنة متراكمة على الطّاولة كان يتلو من أحدها على رجال معمّرين، متشابهين في الغالب، بلحى بيضاء وجبهات عريضة وشعور طويلة مسدولة على الأكتاف.

قالت: "لم نكن نعرف إذا كان بلوزار يعلم أنّ أحلامه تملأ البيت بالضجيج، وبطقوس منافية لتقاليدنا. في النهار كان يحدثنا بأمور واضحة مثل أنّ الحياة لا تطاق في شوارع بيروت المكتظة وأنّ الحر الشديد يحثه على الذهاب إلى البحر. وأنه يحبّ السّمك المشويّ واللّوبياء بالزّيت ولا يحبّ الإكثار من الخبز والحلوى. كنا نظن أن لكلامه في هذه الأمور معاني كبيرة، لأنه كان يتكلم ببطء، كأنه يريد أن يخفي نصف ما يعرفه عن كلّ شيء".

قالت: "حاولت مرّة أن أعرض كلّ ما أتذكر من أحد أحلامه على أمّ فارس العرّافة فاعترضت بالقول أنّ الحلم ناقص ولا بدّ من تذكّر كلّ شيء. في ذلك اليوم فقط ظننت أنّ بلوزار توقّف عن أحلامه، سهرتُ طوال اللّيل فلم أشاهد أو أسمع شيئًا يصعد من غرفته النائمة. في ذلك اليوم فقط نهض بلوزار كئيبًا من نومه. ارتدى ثيابًا جديدة كان نسي أنه اشتراها منذ ثلاثة شهور. ثمّ دخل المطبخ فأحضر قهوته وخرج إلى الشّرفة. سرح قليلًا قبل أن يجمع الحديث في عينيه ليعترف لنا بحلمه في تلك الليلة. 

قال بلوزار يومها: رأيتُني في الطّريق إلى الجامعة، التقيت فتاة شقراء لم يسبق أن عرفتها من قبل، لم أكن أرغب في التعرّف إلى هذا اللّون من الفتيات. كنت أعتقد دائمًا أنهنّ يفتقدن لونهن الحنطي أو الأسمر بسبب سوء التغذية، قال: حاولتْ أن تقف أمامي بكلّ جسدها وشعرها لكي تقول أنها جميلة كما ينبغي. ولكنني التفت إلى أقرب سيارة عموميّة فأوقفتُها وصعدتُ من الباب الخلفي. مشت السيارة وعدّلتُ جلستي قبل أن التفت لأجدها إلى جانبي. ضحكتْ حين شعرتْ أنني فوجئتُ بها ثم أدارت وجهها إلى نافذة السيّارة. لمحتُ من بين شعرها الذي بدأ ينفرد من هواء السيارة أسفل عنقها من جهة كتفها اليمنى - قوسًا ملونًا بظلال الطريق وأضواء فراغات الأبنية، منحنيًا كانعطاف موجة عالية.

قلتُ: هذه الفتاة لیست شقراء أو أنني أحبُّ الشقراوات. ارتبكت حين التفتت ثانية نحوي. ظننتُ أنّها رأت أفكاري، قلتُ فلأهرب نحوها وأسألها عن اسمها. سألتُها. قالت: ليلى، وأنت اسمك بلوزار. أتيت المدينة في يوم كذا وتعد نفسك الآن للسفر . قالت كل ما تريد أن تقوله في لحظة واحدة كأنها تغنّي، نزل الركّاب من السيارة ووجدتني معها. ذهبنا إلى بستان خالتي في الضيعة. تمددنا في مسكبة نرجس تحت ليمونة بعيدة عن الطريق بينما كانت خالتي تحضّر لنا الغداء.

 قالت: "حين سكت بلوزار كان يحدق حائرًا كأنه يفتش عن شيء ما. كأنه يريد أن يجمع حلمه. دخل البيت وعاد إلى الشرفة سبع مرات قبل أن ينتعل حذاءه. انتعل حذاءه ولفّ كثيرًا في مساحة صغيرة على الشرفة قبل أن يجلس ثانية".

 قالت: "لم أصدّق ما حدث في ذلك اليوم. بينما كان بلوزار يحدق في أول الشارع توقف فنجان قهوته في يده. وضعه على الطاولة واتّجه مسرعًا ناحية السلّم.

نظرتُ إلى الشّارع فوجدتُ فتاتهُ الشّقراء. الفتاة التي وصفها منذ لحظات. اقترب منها. سمعتُ صوتها.

- أنا ليلى، أنتَ اسمكَ بلوزار، أتيتَ المدينة في يوم كذا...