21-نوفمبر-2015

الحنين دائمًا إلى سوريا (بيروشكا فان دي فو/أ.ف.ب/Getty)

أزقة قديمة طويلة وضيقة. وكرات الجلال (بالجيم المصرية) الملونة التي كان يلعب بها مع أصدقائه في الحي. هذا كل ما يتذكره عماد السواس ابن حي باب الحديد في حلب، وذلك بعد أن غادر المدينة منذ سنتين قاصدًا غازي عنتاب التركية. يصف عماد الحي الذي ترعرع فيه بالعريق والمتميز عمرانيًا وتاريخيًا: "كيف لا وقد تم إنتاج مسلسل ضخم يحمل اسم باب الحديد؟". أن تعيش في باب الحديد معناه أن تتذوق نكهة الأصالة الحلبية بكل أوجهها. ابتداء من البيت العربي (الحوش كما يسميه الحلبيون) الذي تربى فيه عماد، حيث أرض الديار الكبيرة والبحرة وأنواع لا تعد ولا تحصى من الزهور التي كانت تتولى أمه مهمة الاعتناء بها، وصولًا للحياة الاجتماعية البسيطة وحالة التكاتف التي مازال سكان هذا الحي القديم يحافظون عليها... "فهل يوجد أجمل من ذلك؟". إنه الحنين.

أن تعيش في باب الحديد معناه أن تتذوق نكهة الأصالة الحلبية بكل أوجهها

وبالحديث عن المكونات الاجتماعية، تجدر الإشارة إلى أن سكان باب الحديد كما يقول عماد هم من الاشخاص المحافظين دينيًا، ما شكل تداخلًا مع حياتهم الاجتماعية كعادات الخطبة والزواج والزيارات بين الأهل، حيث درجت العادة أن يكون هناك مجالس للرجال وأخرى نسائية حتى ولو كانوا من عائلة واحدة. وهذا ما درجت عليه العادة في الأعراس أيضًا التي تُقام في المنزل... "لم نكن بحاجة لاستئجار صالة أفراح كما يفعل الكثيرون حديثًا، كنا نقيم الحفل بأرض الحوش الكبيرة، الأمر الذي يضفي مزيدًا من الحميمية على المناسبة".

للحياة في باب الحديد طعم مفعم بالحيوية والنشاط كما يقول عماد. فرائحة الياسمين والعسلة تبعث في الروح رغبة الاستيقاظ. وليس هناك ما هو أجمل من شرب قهوة الصباح أمام البحرة قبل الانطلاق للعمل. "يمكن للمرء مشاهدة الحياة في أكثر صورها حيوية ونشاط في أزقة الحي، والكل يبدء عمله مبكرًا. رائحة فول هنا وفلافل من هذا المحل هناك، وفطائر ومعجنات من آخر. أيضًا أكشاك الشاي والقهوة على ناصية كل زقاق، حتى عربة أبو الأنتيكات (وهو رجل يشتري الأشياء القديمة كالأثاث وغيرها) التي يجول بها صاحبها وهو ينادي "يلي عندو شغلات عتيقة للبيع". يتذكر الهارب من ذكرياته في باب الحديد كل شيء.

من أزقة الحي القديم لبيوت عنتاب الكرتونية

من باب الحديد والبيت الكبير وعريشة العنب على سطح المنزل، وجد عماد نفسه أسير جدارن تكاد تختنق هي ذاتها من فرط قربها لبعضها البعض في منزله بحي باش يوز افلر في مدينة غازي عنتاب التركية بعد أن اضطر للخروج من المدينة بعد الأعمال العسكرية العنيفة التي شهدها الحي. يصف عماد بيته التركي أو الستديو بعلبة كرتونية صغيرة أشبه بكرافان مجهز للأكل والنوم فقط. وتتألف هذه المنازل في الغالب من مطبخ صغير مدمج مع مساحة صغيرة للجلوس، وتحيط بها غرفة أو أكثر للنوم بالكاد تتسع لسرير وخزانة صغيرة فقط... "سكنت في باش يوز افلر مدة طويلة ولكني لم أستطع الاعتياد على المكان. ينتابني دومًا شعور بأني حبيس زنزانة مأجورة أتعثر بأثاثها البسيط ليل نهار. المشكلة لا تكمن في الحي ذاته بقدر ما تكمن بالبيوت الصغيرة التي أضطر أنا وغالبية السوريين للعيش فيها لأنها تتناسب مع إمكانياتنا المادية المتواضعة".

بالنسبة لحي باش يوز افلر فهو كمعظم أحياء غازي عنتاب الحديثة التي تمتاز ببعدها عن وسط المدينة وسوقها المركزي

بالنسبة لحي باش يوز افلر فهو كمعظم أحياء غازي عنتاب الحديثة التي تمتاز ببعدها عن وسط المدينة وسوقها المركزي، إضافة لحداثة كل شيء فيها كالحدائق والمتاجر ومواقف الحافلات. وهذا تمامًا عكس ما اعتاد عليه عماد في حيّه الحلبي القديم، حيث لكل زقاق في الحي حكاية وتسمية لها دلالات ومعاني تاريخية، إضافة للبيوت الواسعة التي تعتبر من أهم معالم حلب القديمة التي تحظى بإعجاب السائحين.

الحياة في تركيا لا تشبه الحياة في حلب أبدًا برأيه. فالأخيرة مدينة مشهورة بحبها للطرب وحفلات الموسيقى والسمر، وهذا يختلف عن نمط حياة الأتراك الذين ينامون باكرًا ويقضون نهارهم في العمل فقط. وهذا ما شكل حاجزًا بالنسبة له (عدا عن اللغة) للاختلاط بسكان الحي الأتراك. فهم يميلون للجدية المبالغ بها في طبعهم، إضافة لأن أولويات حياتهم تنحصر في عملهم فقط، ذلك رغم وجود مرافق ووسائل للرفاهية في بلدهم. على عكسنا السوريين والحلبيين تحديدًا... "فرغم عملنا المضني طوال النهار لكننا مع ذلك نعطي أهمية لأشياء أخرى كالسهر مع الأصدقاء والجلوس في الحدائق والمنتزهات العامة".

انتشار الأزهار في هولندا تعوّض السوري عن افتقاده لمنزله في حلب الذي كان مزينًا بأنواع كثيرة ومختلفة من النباتات والزهور

أكثر الأوقات التي تُشعر عماد بالاختلاف مابين حلب وتركيا هي المناسبات والأعياد. فيفتقد في الحي التركي لمظاهر الفرح والاحتفال بقدوم رمضان أو العيد كمان كان معتادًا في باب الحديد. "صراحة في تركيا كل الأيام لها نفس الملامح، ولولا انتشار السوريين الذين أعادوا إنتاج التقاليد السورية في رمضان كبيع السوس والتمر الهندي وكعك المعروك الرمضاني إضافة للحلويات السورية لما كان لأعيادنا بهجة وفرحة". ويتابع باسمًا: "حتى طريقة الاستيفاظ على السحور مختلفة. في باب الحديد كما سائر حلب كان يأتي المسحر ليلًا ويوقظنا على نغمات نقره على الطبلة أما في تركيا فتجوب سيارة بين الأحياء ويقوم شخص بقرع طبل كبير بطريقة عشوائية مزعجة".

الكوخ الهولندي

كانت مدينة emmen الهولندية هي المحطة الأخيرة في رحلة عماد للبحث عن الأمان والاستقرار. فبعد عدة أشهر قضاها عماد في الكامب الجماعي استطاع الحصول على الإقامة وانتقل للعيش في منزل خشبي صغير أشبه ما يكون بأكواخ الحكايات وقصص الأطفال."البيوت هنا متباعدة وكلها خشبية وكان هذا أمر مختلف. ففي سوريا لا نستخدم الخشب لبناء البيوت حتى في القرى. ولكني سعيد بتجربة هذا النمط من المساكن". أما عن جمال الطبيعة فتلك من أهم الأشياء المحببة لعماد.

كثرة المروج الخضراء وانتشار الأزهار في كل مكان عوّضه عن افتقاده لمنزله في حلب الذي كان مزينًا بأنواع كثيرة ومختلفة من النباتات والزهور. يصف عماد الهولنديين بالشعب المضياف والودود. ورغم أنه حديث التعلم باللغة الهولندية لكنه استطاع أن يكّون صداقات مع بعض سكان الحي الذي يسكنه. يختم رحلة اللجوء بالأمل... "الهولنديون شعب لطيف جدًا. عندما سكنت في منزلي فوجئت ببعض الجيران الذين بادروا هم للتعرف علي لاسيما بعد أن عرفوا أني من سوريا، وقدموا لي بعض الهدايا الرمزية. حتى أن بعضهم عرض علي المساعدة في تعلم اللغة الهولندية".

المساحات الشاسعة والخضراء في هولندا والطبيعة الريفية الجميلة أتاحت لعماد ممارسة أمور لم يكن له سابق تجربة بها، كالتنقل بين البيت ومدرسة تعلم اللغة بواسطة الدراجة الهوائية. يتمتع عماد اليوم بحياة هادئة بمكان جميل كما يحلم الكثير من السوريين، لكن افتقاده للارتباط المعنوي بالمجتمع ينعش ذاكرته يوميًا بمئات الصور واللحظات التي تركها وراءه في حي باب الحديد بحلب. الحنين دائمًا للمنزل الأول.

اقرأ/ي أيضًا:
ألمانيا تبهر السوريين.. لولا العائلة!
في اسطنبول.. الحياة بدون موسيقى ستكون غلطة