01-أبريل-2024
الفنان الذي اكتشف المنظور

المهندس المعماري الإيطالي فيليبو برونليسكي هو من أعاد اكتشاف قوانين المنظور

في روايته الشهيرة اسمي أحمر، يقدم الكاتب التركي أورهان باموق مزيجًا بين الأحداث البوليسية والتاريخ الفني الشرقي المتمثل بالمنمنات والنقوش والزخارف الإسلامية، هذه الفنون المتأثرة بنمط الفن الصيني والمغولي ترسم لوحات ثنائية الأبعاد للشخصيات، فكل ما يظهر في الرقعة يكون مسطحًا بلا تجسيد، ويبرِز المفارقة بين هذا الفن العريق المتأصل، ورغبة السلطان في أن يحظى برسمة على النمط الغربي المتمثل برسم البورتريهات الواقعية التي تعكس المشهد ضمن منظور ثلاثي الأبعاد فيبدو جزءًا من الواقع. هذا التقابل بين المدرستين كان المادة الأساسية للرواية التي رشحت صاحبها إلى نيل نوبل للآداب 2006. ما يهمنا في استحضار هذه الرواية كونها تعرض حقبة هامة من تاريخ الفن المشرقي بفرادته وحيويته رغم تقيده بحرمة التجسيد، والفن الأوروبي الذي امتاز بالواقعية الشديدة الناتجة عن توظيف قوانين المنظور لخلق وهم العمق، فيبدو المشهد/الجسم/ الموضوع المرسوم كأنه مجسم يحتل حيزًا في الفراغ رغم كونه حبيس اللوحة ثنائية الأبعاد. فما هو المنظور في الفن؟ ومن الفنان الذي اكتشفه؟ في المقال نبذة مختصرة عن الموضوع

 

الفنان الذي اكتشف المنظور

لطالما كان التعامل وفق قوانين المنظور موجودًا عند الفنانين والنحاتين اليونانيون والرومان ، ولكن مع مرور الوقت، فُقدت معرفتهم ولذلك فإن قوانين المنظور الذي نتعامل كأن وجوده من المسلّمات اليوم هو اكتشاف حديث نسبيًا في التاريخ الفني؛ ورغم أن فن العصور البيزنطية والعصور الوسطى والقوطية كان فنًا غنيًا وجميلًا، إلا أن اللوحات تخلو من وهم العمق والفضاء.

وقبل القرن الـ14، لم تكن هناك محاولات جديّة لتصوير العالم ثلاثي الأبعاد في الفن بشكل واقعي بالطريقة التي اعتدنا الآن على رؤيتها. وفي ذلك الوقت بدأ الفنانان الإيطاليان جيوتو ودوتشيو في استكشاف فكرة العمق والحجم في فنّهما ويمكن أن يُنسب إليهما الفضل في تقديم شكل مبكر من المنظور، مع استخدام التظليل لخلق وهم العمق، لكن ما أنجزاه بعيد عن المنظور المتعارف عليه في الفن اليوم.
كان المهندس المعماري الإيطالي فيليبو برونليسكي هو من أعاد اكتشاف قوانين المنظور. فقد أظهر منهجًا رياضيًا أثبت كيف يتقلص حجم الأشكال والفضاء وفقًا لموقعها وبعدها عن العين

أعاد برونليسكي اكتشاف مبادئ المنظور الخطي المعروفة لدى الإغريق والرومان التي اندثرت خلال العصور الوسطى 

فيليبو برونيلسكي

كانت أول صورة معروفة لتوظيف المنظور الخطي لوحة رسمها المهندس المعماري الفلورنسي فيليبو برونيلسكي عام 1415، واللوحة تصور المعمودية في فلورنسا من البوابة الأمامية للكاتدرائية غير المكتملة. وفيها برز المنظور الخطي بتوظيف وهم العمق على مستوى ثنائي الأبعاد باستخدام "نقاط التلاشي" التي تتقارب فيها جميع الخطوط على مستوى العين في الأفق. بعد فترة وجيزة من لوحة فيليبو برونيلسكي انتشر هذا المفهوم وبدأ العديد من الفنانين الإيطاليين في استخدام المنظور الخطي في لوحاتهم.

حين كان برونليسكي ما يزال في المرحلة الأولى من مسيرته المعمارية أعاد اكتشاف مبادئ المنظور الخطي المعروفة لدى الإغريق والرومان التي اندثرت خلال العصور الوسطى الأوروبية. وقد أظهر برونليسكي النتائج التي توصل إليها في فن المنظور من خلال لوحتين مطليتين مفقودتين حاليًا للأسف تصوران شوارع ومباني فلورنسا. 

يتضح في اللوحتين أن برونليسكي قد فهم مفهوم نقطة التلاشي الواحدة، التي تتقارب نحوها جميع الخطوط المتوازية المرسومة على نفس المستوى، كما يتضح أنه فهم مبدأ العلاقة بين المسافة وتضاؤل حجم الأجسام عندما تبدو وكأنها تبتعد نحو المدى. 

وبفضل المبادئ البصرية والهندسية التي استندت إليها أدوات منظور برونليسكي، تمكن فنانو جيله من إنتاج أعمال واقعية مذهلة. فتمكنوا من خلق أوهام للمساحة ثلاثية الأبعاد أو الأجسام المرسومة، مما جعل العمل الفني يبدو كامتداد للعالم الحقيقي أو مرآة للطبيعة. 

 

ليون باتيستا ألبيرتي

على الرغم من أن الفضل في اكتشاف قوانين المنظور يعود إلى فيليبو برونليسكي، إلا أن صاحب المبادرة إلى تدوينها كان المهندس المعماري ليون باتيستا ألبيرتي. وفي عام 1435، سجل قواعد المنظور الخطي في أطروحته ديلا بيكتورا (في الرسم) وتضمنت إهداءً حارًا لبرونليسكي وأعاد الفضل إليه. وكان ألبيرتي أول أوروبي يكتب نصًا نظريًا حول الفن. والتي اعتمد فيها أيضًا على الرياضيات باعتبارها الأرضية المشتركة للفن والعلوم. كان لاكتشاف ألبيرتي تأثير هائل على الفنانين الأوروبيين، وما يزال يستخدمه الفنانون والمصممون والمهندسون المعماريون حتى اليوم.

بدأ فنانو عصر النهضة الإيطالي في تطبيق مبادئ المنظور الخطي في فنهم منذ عشرينيات القرن الـ15، وقد تمكن الفنانون من خلق التأثيرات الموحية بالعمق والفضاء أثناء استخدام هذا النظام الرياضي. وتشمل الأعمال الفنية البارزة الأخرى التي لم تكن ممكنة بدون منظور لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي.

 

دور دافنشي في تطوير المنظور

اختراع دافنشي لرسم المنظور
تصميم ألة المنظور لليوناردو دافنشي

بدأ فنانو عصر النهضة الإيطالي في تطبيق مبادئ المنظور الخطي في فنهم منذ عشرينيات القرن الـ15 فصاعدًا. ووصولا إلى ليوناردو دافنشي الذي تأثر بأطروحة ألبيرتي ورغب في أن تعكس لوحاته العالم كما هو في الواقع، فاخترع آلة تسمى آلة المنظور، وهي آلة تتكون من لوح زجاجي مع الإطار يحتوي على فتحة عرض صغيرة. بحيث يمكن وضع الزجاج المؤطر أمام المشهد ليتم رسمه. فعندما ينظر الفنان من خلال فتحة العرض بعين واحدة يمكنه رسم الخطوط العريضة للمشهد مباشرة على لوح الزجاج. ليحصل على مخطط أولي ورسم تقريبي للمشهد النهائي.

ولم يقتصر الأمر على اختراع دافنشي وحده؛ بل وجدت رسوم توضيحية في دليل وثقه الفنان لألماني ألبريشت دورر عام 1525 لآلات منظورية مشابهة لآلة دافنشي، مصممة لتمكين الفنان من إجراء قياسات دقيقة لموضوع الرسم أو المشهد من خلال تتبع ما تم رؤيته من خلال الإطار الموجود مباشرة أمام خط نظر الفنانين. 

 

أنواع المنظور

يُعرّف قاموس ميريام ويبستر المنظور بأنه "تقنية أو عملية تمثيل العلاقة المكانية للأشياء على مستوى أو سطح منحنٍ كما قد تظهر للعين؛ وبمعنى أكثر تحديدًا: يعني التمثيل في رسم أو لوحة لخطوط متوازية ومتقاربة لإعطاء وهم العمق والمسافة من خلال التقائها في نقطة الأفق أو نقطة التلاشي؛ أو يمكن القول إنه يمثل رسم الأشياء حسب مظهرها للعين ومراعاة الأبعاد حسب مسافتها النسبية وموقعها.

بالنسبة للفنانين تعد الرؤية والفهم والتعبير عن المنظور مشكلة قديمة. فلم تُظهر الرسومات واللوحات الفنية المبكرة جدًا المنظور أو التقصير (وهو أحد جوانب المنظور الخطي الذي يحدث عندما يتم تشويه حجم الشكل أو المساحة عند النظر إليها من مسافة أو من زاوية غير عادية). وللمنظور في الفن 4 أنواع فيما يأتي تفاصيلها

  1. المنظور ذو النقطة الواحدة: ويعرف أيضًا باسم المنظور الأمامي أو المركزي، ويمتاز بأن له نقطة تلاشٍ واحدة فقط على خط الأفق الموجود في مكان ما داخل مستوى الصورة وتتقارب جميع الخطوط نحوها. يستخدم المنظور الخطي عندما يريد الرسام إنشاء نقطة مركزية واحدة في الرسم بقصد توجيه الانتباه إليها للتقريب من المنظر الأمامي، ولرؤية جانب واحد من الجسم المرسوم أو لرسم الجسم من منظور الناظر إليه مباشرة أو حين ومن أشهر أمثلته رسم الشارع أو سكك الحديد المتلاشية في الأفق، أو المساحات الداخلية من منظور أمامي مباشر.
  2. المنظور ذو النقطتين: ويعرف أيضًا باسم منظور الزاوية، له نقطتا تلاشٍ على خط الأفق، ولا يلزم بالضرورة أن تكونا داخل مستوى الصورة. ويستخدم هذا النوع من المنظور عند رسم جانبين متعامدين لجسم ما، كلاهما مشوه/مختصر (بغير أبعاده الحقيقية). وفي المنظور ذو النقطتين لا تقع النقطة المحورية للمشهد عادةً بالقرب من نقاط التلاشي، بل تتبع قاعدة تكوين الأثلاث. ومن أشهر أمثلته رسم زاوية الشارع أو رسم منظر داخلي فيه جسم واحدًا كالسرير أو أريكة.
  3. المنظور ثلاثي النقاط: ويستخدم الرسام ثلاث نقاط تلاشٍ حيث تكون اثنتان منها على خط الأفق والثالثة إما مرتفعة فوق خط الأفق أو أسفله بكثير. وله نوعان أساسيان: منظر عين الدودة - حين رسم مشهد من الأسفل نحو الأعلى، فيكون خط الأفق منخفضًا جدًا. والنوع الثاني: منظر عين الطير برسم مشه من الأعلى باتجاه الأسفل/ فيكون خط الأفق مرتفعًا جدًا.
  4. المنظور متعدد النقاط: وهذا هو الحال عندما يكون هناك أكثر من نقطتي تلاشٍ أساسيتين على خط الأفق. وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا من المنظور الذي يمكننا ملاحظته في العالم الحقيقي. ويستخدم عند رسم أجسام لا تقع في نفس الشبكة المتعامدة، أو عند رسم الطرق المنحنية.

أنواع المنظور

 

رغم أهمية المنظور والرحلة الممتدة التي تطلبها توثيقه من تجارب الفنانين والرسامين على مر العصور، إلا أنه وابتداء من القرن الـ 19 قرر الفنان الفرنسي بول سيران التمرد على قوانين المنظور الكلاسيكي فسمح لكل كائن مرسوم في لوحاته بأن يكون مستقلاً داخل مساحة الصورة مع إعطاء الأولوية لعلاقة الأجسام المرسومة في الصورة على حساب المنظور التقليدي أحادي النقطة. وتأثر فنانون لاحقون بسيران ومن أبرزهم بيكاسو الذي ابتكر التكعيبية في الفن.ومهما يكن من الأمر يظل الفن وسيلة للإنسان ليعبر عن نظرته للعالم المرئي والمتخيل، ولم يعد الفن حكرًا على المدرسة الواقعية التي تحاكي العالم المشهود وتخلق منه صورة طبق الأصل في اللوحات.

 

دلالات: