24-ديسمبر-2023
كاريكاتير لـ آن ديرين/ فرنسا

كاريكاتير لـ آن ديرين/ فرنسا

بات جليًا وواضحًا، للقاصي والداني، أننا نعيش في زمن يميل فيه الناس نحو الاستسهال في كل شيء، وذلك على الرغم من أن الحياة الحديثة، بمقتضياتها التي تتعلق بالدراسة والعمل، تتطلب جهدًا هائلًا لم يكن مطلوبًا في أوقات سابقة.

ولكن عن أي استسهال نتحدث؟

نتحدث عن استسهال البحث العلمي والفني والمعرفي، عمومًا، قبل طرح أي محتوى في عالم الإنترنت، الذي بات عالمًا موازيًا للحياة بجدارة، بل وتفوق عند البعض على حياتهم الشخصية الواقعية.

كانت المحاولات جادة في البداية لدى الكثيرين لتقديم محتوى مهمًا ضمن قالب فني وجمالي راق وشائق، لكن "الغريزة" التي وسمت أغلب المحتويات فيما قد بعد تغلبت على كل المحاولات الجادة، وحسمت الأمور لصالح الرداءة والتفاهة بشكل قطعي، إذ يكفي أن تتابع أي منصة رخيصة لترى آلاف المشاهدات التي تُسجَّل لصالح تلك المقاطع المبثوثة كالفطر السام، ومئات التعليقات عليها من كل الأقطار العربية.

يقف رأس المال الملوّث وراء هذا التسارع نحو الحضيض، فالمشاهدات والإعجابات التي كانت مجرد رقم للتباهي يومًا ما، صارت الآن وسيلةً لتخصيل مبالغ مالية طائلة

سيكدِّر روحك ما ستشاهده، فضلًا عن الحزن الذي سيصيبك حتمًا بسبب ما سيخطر ببالك من أفكار تسبب الكآبة عندما تتأمل في ضحالة تلك التعليقات وانحطاط ذلك المحتوى.

نعلم جميعًا أن رأس المال الملوّث يقف وراء هذا التسارع نحو الحضيض، فالمشاهدات والإعجابات التي كانت مجرد رقم للتباهي يومًا ما، صارت الآن وسيلة لتحصيل مبالغ مالية قد تصل إلى آلاف الدولارات في بعض المنصات، وهذا ما أدى إلى ثورة جنونية غير مسبوقة من الترذل والانحطاط الأخلاقي على شاشاتنا الصغيرة؛ ثورة من الفيديوهات السخيفة واللاأخلاقية. ولا يتعلق الأمر هنا بالجنس كمادة ووسيلة فقط، بل يتجاوزه نحو سلوكيات عنصرية شاذة، أو تصرفات سادية ووحشية الهدف منها جذب انتباه المشاهد.

من المؤسف جدًا بالنسبة لنا أن نرى أيضًا تدحرج كرة الثلج لتصل إلى فنانين سبق لهم أن كانوا نجومًا على الشاشات التلفزيونية، لكنهم تهافتوا على المواقع ضاربين بعرض الحائط أي اعتبار أخلاقي لما يجب أن يقدموه للناس، ومتجاهلين أصلًا ما يُناط بهم من مهمات وجدانية تتعلق بتثقيف الناس وانتشالهم من بحر الرداءة لا الغوص بهم نحو قاعه.

ومؤخرًا، أطل علينا بعضهم في برامج كاميرا خفية تتكرر فيها الفكرة نفسها في كل مرة مع اختلاف الفنان، وهي أن يقوم الأخير بالتظاهر بأنه نادل في مقهى، وبأن الزمن الصعب والحاجة دفعت به نحو هذا العمل، مع الإصرار على إنكار شخصيته في البداية، مما يثير شفقة الزبائن ويقلِّب أوجاعهم.

لا أعرف كيف خطر ببال هؤلاء أن تجرؤوا على مثل هذه المقالب!

بالنسبة لي، تبدو هذه البرامج بمثابة دليل دامغ على تردّي أحوال المواطن العادي البسيط، وتدهور حياته المعيشية. فإذا كان الفنانون الذي امتهنوا التمثيل قد وصل بهم الحال لهذا المستوى، فما بالك بالمواطن العادي؟

الأمر الآخر المزعج يتجلى في ردة فعل الناس التي تتعاطف مع حال ذلك الممثل الذي ضاقت به الدنيا، لكن ذلك التعاطف ينطوي على تحقير خفي لمهنة النادل حتى لو أنكروا ذلك. فالمهنة بحد ذاتها لا تليق بمن كان يومًا ما نجمًا على التلفزيون، يا للغرابة! ألا يفترض بالفنان أن يكون نموذجًا ومثالًا للناس؟

تنتهي المهزلة بالتلويح للكاميرات، وتوزيع الابتسامات، وحصد الإعجابات بالمحتوى الهش، متجاهلين الأسباب الحقيقية التي تقف وراء جوع الناس وتعبهم وتردي مستوى معيشتهم، ومن يقف خلف ذلك من مسؤولين في بلاد صار شعبها على حافة المجاعة.

الأمثلة على مثل هذه البرامج ذات المحتوى التافه كثيرة، لكننا سنتوقف أخيرًا عند مثال آخر يتعلق أيضًا بمقلب يُحضَّر لممثل ما، حيث يتفق صانعو المحتوى مع شاب ما على أن يتقوّل ويلفق قصة سيئة بحق أحد الممثلين، بينما يتم استدعاء ذلك الممثل ليقف وراء الشاب دون أن يخبروه بذلك. يظن الممثل بأن شعبيته ستكفل له مديحًا ما، لكنه يفاجأ بكلام الشاب السيئ عنه لدرجة الاستفزاز، فتبدأ المشاحنة بينهما وبين الشاب، وتتخللها شتائم مخجلة، وقد تصل الأمور للضرب.

ويا لها من مهزلة عندما ترى ممثلًا يفتقد للرصانة والحكمة، ويُظهِر بكل جلافة غضبه وطباعه العصبية لأسباب تافهة! يدفعك ذلك للتساؤل: هل هؤلاء حقًا من يفترض بهم أن يقدموا لنا رسائل أخلاقية من خلال أعمالهم؟  وما هي رسالة تلك البرامج؟ وكيف يقبل هؤلاء بالظهور فيها؟ وكيف يقبلون بنشرها؟

يا لها من مسخرة تراجيدية! كل ذلك الانحطاط من أجل حفنة من اللايكات.