23-يوليو-2023
lkjh

طلبة في مدرسة ابتدائية سورية (Getty)

عاد وزير التربية والتعليم السوري دارم الطباع إلى عادته في نسف التربية ونقد التعليم في تصريحاته المثيرة للجدل التي يبدو أنها الخطة الوحيدة الواضحة التي حافظ عليها منذ تعيينه عام 2020، إذ قال منذ أيام في حديثه لإذاعة شام إف إم المحلية "يا أخي شو بدك بالبكالوريا؟ أصلًا عنا الهرم مقلوب، فالهرم في كل دول العالم يبدأ من القاعدة وينتهي في البكالوريا، وفي أوروبا ينتهي في الصف العاشر، حيث ينهون مرحلة التعليم العالي فيتعلمون المهن ويدخلون سوق العمل وينعشون البلاد، بينما يتوجه قسمٌ منهم فقط نحو التعليم العالي، والقلة القليلة فقط هم من يتخصصون".

وتابع حديثه المُدين للتعليم الأكاديمي معتبرًا إياه السبب الأساسي لعدم ارتياد الناس المسرح، قائلًا: "حياة الأكاديمي مو سهلة، بينما اللي بيشتغل بيعيش الحياة بيطلع مطاعم، بيحضر سينما ومسرح وبيطور الحياة الاجتماعية. اليوم الناس نادرًا ما تروح مسرح لأنو كلو قاعدلي بدو يقرا، وبدو يساوي جامعات، وبدو يطلع لفوق وبدو يساوي بروفيسور ودكتوراه!".

من يتابع تصريحات الطباع لن يستغرب منها كثيرًا، فهذه فحوى جلّ ظهوره الإعلامي، لكن ماذا لو كانت تنطوي على ما هو أكثر من آراء شخصية، بل منهجية تجهيل متعمّد تقوده دولة بأكملها؟ خصوصًا أنها تتعارض نصيًا وبشكلٍ واضح مع المادة 36 من قانون حقوق الطفل الذي أقره رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عام 2021، والتي نصّت على أنه "يحظر استغلال الطفل اقتصاديًا أو في أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرًا، أو يمثل عائقًا لتعليم الطفل".

من يتابع تصريحات وزير التربية والتعليم لدى النظام السوري، دارم الطباع، لن يستغرب منها كثيرًا، فهذه فحوى جلّ ظهوره الإعلامي، لكن ماذا لو كانت تنطوي على ما هو أكثر من آراء شخصية، بل منهجية تجهيل متعمّد تقوده دولة بأكملها؟

لنستحضر تصريحاتٍ أخرى أدلى بها الرجل العام الماضي على شاشة الفضائية السورية دعا فيها الطلاب إلى التعلّم المهني والابتعاد عن الدراسات الطبية، إذ قال: "أيهما أفضل أن يدرس الطالب الطب ثم اختصاص، ويقضي 12 سنة، ثم يسافر بعدها لألمانيا ويخدم الألمان، أم يدرس في معهد مهني لمدة سنتين ويدخل لسوق العمل بعمر 20 سنة، ويحصد مليون ليرة (160 دولار حينها) شهريًا".

إن نظرة على واقع المدارس السورية، من خلال تقارير وأخبار وسائل إعلام النظام نفسه، تكشف إنجازات وزارة الطباع، فالكتب المدرسية شبه معدومة مثلًا، والهيئة التدريسية في مختلف مناطق سيطرة النظام تعاني من شحّ في الموارد البشرية، إذ لم يتمكن النظام من تأمين مدرسين، فيما عدا 64 مدرسًا فقط من العدد الكلي البالغ 859 مدرسًا والذي طلبته مديرية القنيطرة في المسابقة المركزية العام الماضي للتنمية الإدارية. وفي حين أن بعض مراكز الامتحانات طلبت من أهالي الطلاب مراقبة القاعات في امتحانات الثانوية العامة الأخيرة، لم يجد الطبّاع ما يمنعه من أن يعرض على نظيره الإماراتي استيراد من تبقّى من المدرّسين خلال قمة تحويل التعليم في نيويورك. 

لنتجاوز مرحلة التعليم الأساسي وننتقل إلى الأروقة الأكاديمية. فطوال السنوات الماضية، شهدت جامعة دمشق، وما زالت تشهد، العديد من الفعاليات، ولكي نكون منصفين -لا ساخرين- فإن بعضها يمتاز بالطابع العلمي، إلا أن الإعلان عن تلك الفعاليات يقتصر على موقعها الإلكتروني الذي لا يُفتح إلا بضربة حظ ولا يعلم بها إلا من يكون مصادفةً في موقع الفعالية يوم حدوثها، بينما خُصِص مدرّجا الباسل والصيدلة - أكبر مدرجين في جامعة دمشق - طوال السنوات الخمس الأخيرة لاحتضان ورشات البرمجة اللغوية العصبية، وكُرّست الحملات الإعلانية التي أطلقتها كلية الفنون الجميلة لمعرض "الإمام الخميني في مرآة الفن السوري" الذي لم يرسمه فنانٌ سوريّ قط، ويشهد بعلاقته الوطيدة مع الفن المخرج جعفر بناهي، كما لم يخفَ على أحد فخر الجامعة بالـ "إنتماء" في ذكراها المئوية في حزيران/يونيو الفائت.

lkjh

 

أما أبرز العقول الأكاديمية التي استضافتها الجامعة في السنوات الأخيرة لتمنح الطلاب فرصة الالتقاء بها والاشتباك مع خبراتها وثروتها العلمية بشكلٍ شخصي، فكانت لرجل الأعمال الأردني طلال أبو غزالة، والكاتب عبد الباري عطوان رئيس تحرير موقع رأي اليوم المعروف بسقطاته، والذي جاء إلى كلية الإعلام ليذكر بأن "روسيا واجهت الغرب كاملًا في أوكرانيا".

لكن هذه بعينها هي التصرفات المتوقعة من جامعةتواجه تهديدات سحب الاعتراف كل سنة، ولا زالت تقبع في مراتب متدنية على مختلف مؤشرات الترتيب العالمية بسبب انعدام الأمان وضعف الكادر التدريسي وشبه انعدام النتاج البحثي وآلاف الشهادات المزوّرة. أما مبررات هذا التدني فهي دائمًا ما تتمثل في العقوبات الدولية أحادية الجانب، رجل القش حليف الدولة السورية.

لا شكّ بأن العقوبات مُعيقة، وأنها تعاني من مشاكل استهداف بنيوية في السياق السوري تحديدًا، لكن المؤكد أكثر من ذلك أنها ليست المسبب للتدهور الأكاديمي الحاصل. يمكن أخذ كوبا، التي تخضع لحصار اقتصادي أميركي منذ ستة عقود، مثالًا، إذ تنفق اليوم ما يقرب من 13% من ناتجها المحلي الإجمالي على التعليم، وهو أعلى معدل تنفقه أي حكومة في العالم، وتمكنت من إنشاء نظام تعليمي ينافس أيًا من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الأوروبية، كما تبلغ معدلات معرفة القراءة والكتابة 99.8% إجمالًا، و100% لمن تتراوح أعمارهم بين 15 و 25 عامًا.

ووفقًا للبنك الدولي، تمتلك كوبا أفضل نظام تعليمي في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وهي الدولة الوحيدة في القارة التي تحتوي على هيئة تدريس عالية المستوى، وخلقت، ضمن الموارد المتاحة، نظامًا تعليميًا يوازن بين الطالب والمدرّس، وقد أثار هذا النظام اهتمام مؤسسات تعليمية مرموقة، مثل الاتحاد الوطني البريطاني للتعليم (واحد من أكبر الاتحادات المختصة بالتعليم في العالم) والاتحاد الوطني البريطاني للعاملين في قطاعات العلم والتعليم والرياضة، اللذين أرسلا بعثاتٍ دورية لدراسة نظام كوبا التعليمي، وقد وثّق شهادات المُبتعثين في تلك الرحلات الكاتب والباحث أورلاندو هيل في كتابه "ما وراء الحصار".

جامعة دمشق تواجه تهديد سحب الاعتراف كل سنة، ولا زالت تقبع في مراتب متدنية على مختلف مؤشرات الترتيب العالمية بسبب انعدام الأمان وضعف الكادر التدريسي وشبه انعدام النتاج البحثي وآلاف الشهادات المزوّرة. أما مبررات هذا التدني فهي دائمًا ما تتمثل في العقوبات الدولية أحادية الجانب، رجل القش حليف الدولة السورية.

يمكن قراءة كل ما سبق من "ممارسات" (نعم، إذ لا ينطوي كل ذلك على صدف أو "حالات فردية") بشكلٍ أوضح في ضوء آيديولوجية "مناهضة الفكر" (Anti-Intellectualism) القائمة على العداء وعدم الثقة تجاه الفكر والمثقفين، والاستهانة بالتعليم والفلسفة ونبذ الفن والأدب والعلوم باعتبارها مساعٍ بشرية غير عملية وذات دوافع سياسية، وحتى محتقرة في بعض الأحيان. يقدم مناهضو الفكر أنفسهم على أنهم أبطال لعامة الشعب، شعبويون ضد النخبوية السياسية والأكاديمية، ويميلون إلى رؤية المتعلمين على أنهم طبقة تهيمن على الخطاب السياسي والتعليم العالي بينما هي منفصلة عن اهتمامات الناس العاديين. وفي هذا السياق نذكر بأن أحد الوزراء قال لإذاعة محلية إن الشخص الذي يعطي حياته حقها اليوم في المجتمع هو غير الأكاديمي، الذي يعمل عملًا "عاديًا"، لا من يرغب بتحصيل الشهادة الجامعية أو الدكتوراه، أو "دراسة الطب ومُداواة الألمان".

ولطالما كانت مناهضة الفكر أداةً بيد الأنظمة الشمولية في الماضي لقمع المعارضة السياسية واجتثاث بذورها. فخلال الحرب الأهلية الإسبانية مثلًا (1936-1939) والتي تلاها حكم الديكتاتوري الجنرال فرانسيسكو فرانكو حتى عام 1975، جاء الرد على "الإرهاب الأبيض" بمناهضة الفكر، إذ كان معظم الضحايا المدنيين البالغ عددهم 200 ألفٍ من المثقفين والمعلمين والأكاديميين الناشطين سياسيًا. وخلال الإبادة الجماعية الكمبودية (1975-1979)، قضى النظام الشيوعي في كمبوديا تقريبًا على جميع سكانها المتعلمين.

كمنت
واحدة من الفعاليات السياسية في حرم جامعة دمشق. (GETTY)

وفي القرن العشرين، أزيلت مجتمعات المثقفين بشكل منهجي من السلطة. فخلال الحرب الباردة، نبذت جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية الفيلسوف فاكلاف هافيل باعتباره رجلًا غير موثوق به سياسيًا ولا يستحق ثقة التشيكيين العاديين، في واقعة أُعيد إحياؤها حديثًا عندما أعلن مجلس الوزراء السوري بقضّه وقضيضه أن وزارة الإعلام فتحت تحقيقًا بشأن استضافة الكاتب المصري يوسف زيدان على شاشة الإخبارية السورية، مفتشة عن تهم الصهيونية والتطبيع مع العدو في أدراجها لتبرير حجم تحركها مقارنةً بالحدث نفسه.

وفي عام 1966، اقتحمت قوات الديكتاتور الأرجنتيني خوان كارلوس أونجانيا المناهض للشيوعية جامعة بوينس آيرس لطرد الأكاديميين الخطرين سياسيًا من خمس كليات مختلفة، في أحداثٍ دامية عُرفت لاحقًا باسم "ليلة العصي الطويلة". ولا يمكن إحصاء ليالي ونهارات العصي الطويلة التي عاشتها جامعات حلب والفرات والمدينة الجامعية في دمشق.

في كتابه "حرب الحرم الجامعي" (The Campus War)، كتب الفيلسوف الأميركي جون سيرل: "من أبرز سمات حركة مناهضة الفكر عداؤها للجامعة بصفتها مؤسسة. فالمثقفون، بحكم التعريف، هم أناس يأخذون الأفكار على محمل الجد، إذ من المهم لهم ما إذا كانت النظرية صحيحة أم خاطئة، بصرف النظر عن وجود تطبيقات عملية لها. بينما في حركة مناهضة الفكر الراديكالية، تٌرفَض القيمة الفكرية للمعرفة بحد ذاتها، ولا تُرى المعرفة ذات قيمة إلا عندما تكون أساسًا للعمل» أو تحقيق مليون ليرة شهريًا مثلًا.

في نهاية المطاف، لم ينتبه أحد للتبدلات العميقة التي قلبت مفاهيم التعلم والثقافة في سوريا، فالجامعة، على اختلاف الكلية، غدت وقتًا مستقطعًا لتحضير وثائق الهجرة دون القلق من شعبة التجنيد، ومكتبات البلاد الكبرى تتساقط واحدةً تلو الأخرى، فبعد "ميسلون" و"اليقظة" و"الزهراء"، أغلقت "نوبل" أبوابها للأبد بأرشيفها الذي هُزم أمام عناوين من قبيل العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، والتي باتت تتصدر الواجهات. بينما واجهت "كردية" "الكثير من الظروف التي أسهمت في الإغلاق وعدم القدرة على الاستمرار"، كما تقول، رغم تأكيد مؤسسها على أن انخفاض المبيعات وعدد القراء ليس واحدًا منها، ومات بائع الكتب تحت جسر الرئيس. أما سوق العمل الذي يدعو السيد الوزير إلى هجر المدرّجات والسباق نحوه، فإنه يظل رافضًا لجميع الوافدين إليه دون أية تفرقة.