قرأتُ مؤخرًا الدراسة التي نُشرَت في العدد الأخير (45) من دورية "تبين" حول "الثقافة السياسية: ملاحظات عامة" للمفكّر العربي عزمي بشارة؛ وأعادتني قراءة هذه الدراسة وما ورَد في محاورها المختلفة من ملاحظات مهمة حول الثقافة السياسية في سياقات الانتقال الديمقراطي، إلى ذلك النقاش الذي يتجدّد عربيًا كلّ فترة، ويُثيره المهتمين بفهم مُجريات عمليات التحوّل الديمقراطي التي حدثت في العالم العربي وبدأتها ثورات الربيع العربي في أواخر عام 2010، حيثُ يَدفعون ضمنه بعدة أسئلة إلى الواجهة، وهي في مجملها أسئلة تتعلّق بأسباب الانتكاسات التي أصابت سيرورة تلك العمليات وأدّت بها إلى نتيجتها المجتزأة الأخيرة.
وإنّ واحدًا من ضمن الأسئلة الكثيرة التي يُثيرها المهتمون بالتحوّل الديمقراطي في العالم العربي، هو ذلك السؤال الذي يتعلّق بدور الثقافة السياسية السائدة في العالم العربي في النتيجة النهائية التي وصلت إليها سيرورة عمليات التحوّل الديمقراطي فيه، وإذا ما كان غياب الثقافة السياسية المدنية والديمقراطية عن المنظومة الفكرية العامة لمواطني العالم العربي هو السبب في نتيجة الانتكاسة النهائية التي وصلت إليها عمليات التحوّل الديمقراطي في دوله المختلفة.
يؤكّد عزمي بشارة أنّ الثقافة السياسية تختلف من نظام إلى آخر، فهي قد تكون إما ثقافة محلية وتقليدية، أو ثقافة قائمة على المشاركة وهي الثقافة الأكثر ملائمة للنظام الديمقراطي
ورغمَ خصوصية وتفرّد كلّ حالة من حالات التحوّل الديمقراطي التي شهدها العالم العربي منذ تفجّر ثورات الربيع العربي، إلا إنّه يُمكن استلهام الملاحظات التي أوردها بشارة في دراسته في بناء فكرة عامة حول الثقافة السياسية المدنية والديمقراطية في العالم العربي، ويُمكن استخدام هذه الفكرة في الردّ على الطغاة والمستبدين العرب ومناصريهم، أولئك الذين يزعمون بأنّ السبب الرئيسي للانتكاسة التي طالت عمليات التحوّل الديمقراطي عند العرب هو أنّ ثقافتهم السياسية المستمدّة من الثقافة العربية والإسلامية هي في الأصل ثقافة متخلّفة ورجعية، لا تتقبّل المعايير الراسخة في قلب مفاهيم الديمقراطية والمدنية، وتقوم على ما يُناقضها.
بدايةً، يؤكّد بشارة في دراسته بأنّ الثقافة السياسية تختلف من نظام سياسي إلى آخر، تبعًا لطبيعة هذا النظام وشكل حكمه، فهي قد تكون إما ثقافة محلية وتقليدية وثقافة رعية ،وهي الثقافة الملائمة للنظام السياسي السلطوي، أو ثقافة قائمة على المشاركة السياسية، أو ثقافة مدنية وديمقراطية وهي الثقافة الأكثر ملائمة للنظام الديمقراطي.
ويُؤكّد أيضًا بأنّ الثقافة المدنية والديمقراطية التي تُلائم الأنظمة السياسية الديمقراطية، وتسود فيها، غالبًا هي ثقافة قائمة على مبدأ مواطنة الفرد وإيمانه بدوره النشط والفاعل في النظام السياسي، فالثقافة المدنية والديمقراطية إذا ما توافرت عند الفرد تجعله أكثر قناعة بالمشاركة السياسية وتأثيراتها، وتدفعه نحو القبول بالقانون ومراقبته، وتَزيد من مستويات ميله نحو المشاركة في توجيه السلطة السياسية.
يرفض بشارة في دراسته التعامل مع نمط الثقافة السياسية السائد عند أي شعب من الشعوب باعتباره جوهرًا ثابتًا وكلًّا عضويًا واحدًا، فهو يرى بأنّ الثقافة السياسية لأي شعب تختلف وتتغير باختلاف الظروف السياسية ومرور الزمن، وبحسبه فإنّ الثقافة السياسية لأي شعب ليست ثابتة، ويُمكنها أن تتغير وتنتقل من نمط إلى نمط آخر إذا ما اختلفت ظروف النظام السياسي الحاكم للشعب وتغيّرت أحواله.
وبحسب بشارة فإنّ هذا الادعاء الذي يسوقه المستبدون أو مناصرو الأنظمة الاستبدادية، ويؤكّدون ضمنه أنّ سبب فشل عمليات التحوّل الديمقراطي، وغياب الديمقراطية، عن بلدان العالم العربي هو عدم توافر نمط ثقافة سياسية مدنية وديمقراطية عند شعوبه؛ هو ادعاء يَتناقض مع الحقيقة المتغيرة للثقافة السياسية، فهو ادعاء يقول بثبات جوهرها ووجودها كنسق ثقافي كلي يتبناه جميع أفراد كلّ شعب من هذه الشعوب بشكل كامل، وذلك في مخالفة واضحة وجلية لطبيعتها المرنة والمتبدلة، ولوجودها بدرجات متفاوتة عند فئات وطبقات الشعوب والمجتمعات المختلفة.
يريد بشارة من خلال تأكيده على الجوهر المتغيّر والمتبدّل للثقافة السياسية عند الشعوب الطعن في تلكَ المسلمة، التي تقول بأنّ الأنظمة الديمقراطية في الدول الغربية قامت على ثقافات سياسية مساندة لها، فتلكَ المسلمة بحسبه تقلب أسس التعاقب التاريخي، وتعكس الأسباب والنتائج، لأنّها تُعدّ الثقافة الديمقراطية السائدة في الغرب سبقت وجود النظام الديمقراطي فيه، وارتبطت بمزايا الشعوب الشمالية وطبيعة ثقافاتها السابقة الأكثر تقبلًا وانفتاحًا لمعايير الديمقراطية وأسسها.
لم تكن الثقافة السياسية المدنية والديمقراطية السائدة في الغرب اليوم جوهرًا ثابتًا وموجودًا منذ الأزل في ثقافة الشعوب الغربية، وإنما جاءت كنتاج تطوّر تدريجي للنظام الديمقراطي
وبحسب بشارة، فإنّ بطلان هذه المسلمة التي تتردد على ألسنة بعض الافراد في العالم العربي كلازمة في سياقات تفسيرهم لغياب الديمقراطية فيه، يظهر عند التأمّل والتدقيق في طبيعة الثقافات الأولى للشعوب الشمالية (مجالس القبائل ما قبل المسيحية، الفلسفة اليونانية والثقافة اليهودية المسيحية)، فهذه الثقافات جميعها كانت تحتوي على عناصر مناهضة للديمقراطية، بشكل يفوق كثيرًا ما تحتوي عليه من عناصر قد نعدها في عصرنا هذا مساندة للديمقراطية.
لم تكن الثقافة السياسية المدنية والديمقراطية السائدة في الغرب اليوم -بحسب بشارة- جوهرًا ثابتًا وموجودًا منذ الأزل في ثقافة الشعوب الغربية (الشمالية)، وإنما جاءت كنتاج تطوّر تدريجي للنظام الديمقراطي الذي تشأ وتطوّر في العالم الغربي بالتدريج، وعلى مراحل، تمّ خلالها التعويد عليها والتثقيف بها لفترة زمنية طويلة استمرت أكثر من قرن.
إنّ الأفكار والملاحظات التي أوردها بشارة في دراسته، هي جميعها أفكار وملاحظات تُساعِد في فهم واستيعاب مدى وجاهة سوء غياب الثقافة السياسية المدنية والديمقراطية -عن المنظومة الفكرية العامة لمواطني العالم العربي- كمفسّر لفشل عمليات التحوّل الديمقراطي وغياب الديمقراطية في السياقات العربية، وهو التفسير الذي يُهمِل عامل التراكمية في نشوء وترسيخ الأنظمة الديمقراطية، ويستبطن إشارة إلى تخلّف الثقافة العربية والإسلامية، وإلى عجزها عن تقبّل ومسايرة الديمقراطية وأسسها، وإنّ القراءة التفصيلية والدقيقة لهذه الدراسة المهمة تَبقى ضرورة حتمية لكلّ المهتمين بشؤون الدمقرطة والتحوّلات الديمقراطية عربيًا.