ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
نجلاء أبومرعي شاعرة وكاتبة وإعلامية من لبنان. عملت في وسائل إعلامية وصحافية مختلفة منها في بيروت ومنها في لندن التي انتقلت إليها للعمل مع بي بي سي عربي لعشر سنوات، قبل أن تنضم إلى التلفزيون العربي حيث تعمل حاليًا. مجازة في الصحافة من كلية الإعلام الجامعة اللبنانية، وحائزة على ماجستير في الدراسات الشرق أوسطية من جامعة كينغز كوليج – لندن. مرشدة متطوعة في شبكة ماري كولفن للصحافيات.
- ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟
ترددي في الإجابة مثل ذلك الذي ينتابك حينما تعرف أن ذهابك إلى المساعد النفسي يعني الغوص في البعيد، ذاك الذي استوطن فيك، في غربتك عنه وترحالك.
سؤالك أعادني إليّ طفلة. كانت القراءة وسيلة تواصلي مع أمي كما يبدو لي الآن. تنبه وعيي باكرًا على نزالها المتواصل مع العمليات الجراحية والمرض. فدخلت إلى نفسي باقة من خوف وقلق وفقد وشوق وما لم أفككه بعد حتى الآن. أذكر أني كنت أحمل كتاب القراءة وأجلس إلى جانب وسادة أمي وأقرأ. تكون نصف غافلة، توهمني أنها تسمعني، لعلها كانت تصغي إلى صوتي بالفعل.
وحينما كنت أُستدعى إلى خارج غرفتها لترتاح، أذهب إلى جوار والدي في ركنه الخاص في غرفة الجلوس. أقرأ وأحرص أن تكون مخارج الحروف جيدة، فثناؤه على حسن الإلقاء يخفف الثقل الذي كان يحتل هالتي وفضاء المنزل في انتظار تعافي أمي. وهكذا نما الأنس وصار يأخذني إلى القراءة، وبدا لي أن الإمساك بالكتاب، أي كتاب، هو تمسك بالطمأنينة. وأنا أحاول الإجابة على سؤالك يخطر لي أنني وجدت طريقي إلى الكتاب والكتابة معًا. فجلوسي إلى جانب والدي، هو الذي كان أستاذ تعليم ثانوي لمادة التاريخ والجغرافيا، كان يعني بالإضافة إلى سماعي لسرده فيما يهمه من قصص في التاريخ والسياسة ورواية قصصه وحكايات من عرفهم في القرية، كان يعني الانغماس بصمت في مراقبته يخط بأناقة حروف اللغة العربية لكتابة رسالة لا تشوبها شائبة. الصبر والاتقان. أتنبه الآن إلى أني الأرجح تعلمت ألف باء الكتابة والتحرير منه. خطة ومسودة وتحرير وتنقيح وتدقيق، حتى لو كان رسالة إلى ابن أو ابنة أو قريب. الصبر والمواظبة والعودة إلى أول الصفحة البيضاء من دون استسلام. ربما هكذا تلازمت لدي القراءة والكتابة وارتبطت من حيث لم يكن في إدراكي بالحال النفسي والمزاج، وكان لهذا أثره وإشكالاته.
اشتدّ الخوف وتسرّب القلق إليّ بلا دراية مني حينها، لكن أتتبع أثر تفاصيل تلك المرحلة وأظن أن ذلك كان السبب للتحول إلى القراءة الصامتة المنسحبة من خلالها إلى زوايا الذات بعيدًا عن كل ما هو خارج سيطرتي، تقريبًا كل شيء.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟
أظن أن السؤال مرعب بداية. ففي هذه اللحظة أشعر أنني لم أقرأ شيئًا. صفحة بيضاء مخيفة بالجهل والفراغ.
ذاكرتي ترشدني إلى "المنجد" الأحمر السميك. كان ثقيلًا لكن في متناولي حسب طولي آنذاك وأنا لم أكن في التاسعة بعد، موضوعًا على الرف الأول من هذه المكتبة العريضة والطويلة. لم يفتح لي باب المفردات والمشتقات فقط، بل منحني أول استلهام للقوة من خلال المعنى. كنت أعاني من تنمر رفاقي الصبية، يغيرون في حروف اسمي ليصبح اسمًا لشيء آخر، فينادونني به وهكذا أصبح مثيرة للضحك، وينالون نصيبهم من الضحك ومن رؤيتي في حالة استياء شديد فيكون لهم يوم لعب جيد. فكرة بسيطة وذكية بالفعل. وأنا التي أُسميت تيمنًا بعمتي التي أحب، كنت أحب اسمي ولا أعرف كيف أردّ ذلك التنمر إلى أن عثرت على اسمي في المنجد وقرأت معناه. يا له من اكتشاف! هكذا يمكن أكون الصفة والموصوف، عينًا واسعة وجميلة، وطعنة عميقة وقوية.
فوجدت نفسي أمام الكثير دفعة واحدة. بعدها صرت أضع الكرسي لأصبح قادرة على تناول كتب أخرى تؤانس بعضها على الرفوف. فوجدت المجموعة الكاملة لنزار قباني وجبران خليل جبران، وكتب في السياسة والتاريخ والعسكر، و"الغريب" لألبير كامو، ويبدو لي مناسبًا الآن ربما قراءتها من جديد، فكنت أقرأ ما لا أفهم وأشعر برغبة فهم ما أقرأ، وأشعر بسذاجة أنني أفعل شيئًا جيدًا. بقيت هذه المكتبة زادي إلى أن أضفت إليها مكتبة المدرسة. ففي المرحلة المتوسطة كان دائمًا لدينا ساعة أسبوعية للمطالعة، وهناك تعرفت إلى سلام الراسي وحكايات الأمثال الشعبية، وكان لذلك موقع خاص في قلبي ولا يزال، وهو اهتمام أظن أخذته عن عمتي أيضًا، فهي بارعة جدًا في انتقاء الأمثال وإسقاطها في أفضل السياقات. المثل هو إعلان موقف باختزال لاذع. وبعدها كان طبيعيًا أن أصبح أكثر جوعًا ورغبة في الإشباع.
- من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
لا أظن أن هناك كاتبًا مفضلًا بالنسبة لي بشكل منفرد. لكن منذ بداية تعرفي إلى الياس خوري مثلًا من خلال "يالو" حينما كنت لا أزال في بيروت، وجدت نفسي منساقة لقراءة المزيد من إنتاجه بشغف. وافق مزاجي بسلاسة. "كأنها نائمة" التي قرأتها في لندن، احتلَّت روحي وعقلي وجسدي. جبور الدويهي مع "مطر حزيران" و"شريد المنازل"، أخذني إلى مكان يشبه الأمكنة التي تنساها لكن رائحتها تبقى في أنفك، قد لا أذكر تفاصيل الشخصيات والأحداث لكن المزاج والروحية حاضران معي حتى الآن. "حكايتي شرح يطول"، الحال نفسه مع "ساعة التخلي" لعباس بيضون، "لا طريق إلى الجنة" لحسن داوود...
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟
لا. ولا أعرف لماذا؟ ربما يجب أن أكتب كما تقول ملاحظات أو ملخصات، فأنا لست جيدة في حفظ الاقتباسات، لا أعرف! لا أميل إلى قذف محدثي بالاقتباسات فيما لو استدعى ذلك في حديث أو نقاش. أفضل المشاركة بنتاج تفاعلي مع الأفكار والأحداث. عندما أقرأ كتابًا آسرًا، قد أبقى في عالمه لأيام، قد أشاركه مع آخرين ذكرًا أو نقاشًا وقد لا أفعل لكي أُبقي تفاعلي لي، أكون في حال احتمائي لمشاعري وأفكاري بشأنه.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
أحاول منذ فترة قريبة التعامل مع القراءة المشتتة. أن أستعيد القدرة على إنهاء قراءة ما أبدأه، سواء كان رواية أم كتاب. لتجاوز ذلك، استعنت بقراءة الكتاب إلكترونيًا، وأفعل ذلك بواسطة هاتفي الذكي لا الألواح المخصصة لذلك. فقد تنبهت إلى أنه بحكم عملي وبحكم الانسياق شبه المتواصل نحو متابعة الأخبار أو المقالات أو التغريدات والإشعارات المتواصلة، يحتل الهاتف الذكي موقعه بشراسة بين يدي وله القدرة على طرد الأمور الأخرى من دائرة انتباهي. وهكذا، تمكنت مؤخرًا من البدء بقراءة "الست ماري روز" لـ إيتل عدنان إلكترونيًا بنسختها الفرنسية، وإنهائها، رغم أن القراءة لم تكن يومية بمعنى أنها لم تكن منتظمة وشهدت انقطاعات كما يظهر لي التطبيق نسق القراءة بالتواريخ. ولكن قرأت واستمتعت وأتممت، وكان ذلك مدعاة راحة. وبادرت إلى قراءة "مستر نون" لنجوى بركات، وجدتني أكثر انتظامًا، ربما الوقت كان أرحب بسبب بعض أيام من إجازات العمل، لكن أيضًا أظن أن سهولة التسلل إلى الرواية من خلال هاتفي الذكي في الأوقات المتناثرة من اليوم الضاغط أو في وقت الاستلاب ليلًا على شاشة الهاتف الذكي ساهم في ذلك. فقرأت واستمتعت وأتممت فارتحت. ذلك فيما لا يزال كتاب رواية "ملكوت هذه الأرض" لهدى بركات مقسومًا في منتصفه يتنقل من رفّ إلى طرف طاولة. يشدني ويبعدني في آن معًا.
- حدثينا عن مكتبتك؟
ما ذكرته في إجابتي السابقة يعطيك فكرة ربما عن مكتبتي. فيها الكثير من الروايات، عربية ومترجمة أو غير مترجمة. وربما أكمل السرد وأذكر أن "بيوغرافيا الجوع" لـ آميلي نوثومب والتي قرأتها وفق ترجمة بسام حجار، من الكتب التي أثرت فيّ كثيرًا ولعلها فتحت نافذة أو أكثر أمامي. فيها لهاروكي موراكامي "كافكا على الشاطئ"، فيها لإيزابيل الليندي وغابرييل غارسيا ماركيز. وفيها لسليم بركات. وفيها من الشعر، وأيضًا من كتب السيرة الذاتية، وفيها عن المرأة والإعلام والسياسة.
- ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟
أقرأ كتابًا لـ أودري لود، عبارة عن حزمة من المقالات. وأحاول أن أواصل قراءة كتاب عن التحول الأيديولوجي لحزب الله كنت قد بدأت قراءته قبل أن يبدأ زمن الجائحة. نعم، تهت عن الكتاب أم تاه عني لا أعرف. والآن أبقيه على مرأى من ناظري كي أعقد العزم مجددًا.
اقرأ/ي أيضًا: