03-يناير-2022

الروائي فيصل الأحمر

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فيصل الأحمر روائي من الجزائر، من مواليد 1973، يحمل دكتوراه في النقد المعاصر، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للأساتذة، قسنطينة، ثم بجامعة جيجل. أعماله الأدبية هي الآتية: وقائع من العالم الآخر، رجل الأعمال، أمين العلواني، ساعة حرب ساعة حب، حالة حب، النوافذ الداخلية، خزانة الأسرار. وله العديد من دراسات النقدية والفكرية، منها: دائرة معارف في الآداب الأجنبية، خرائط العوالم الممكنة، سياسات الخطاب الأدبي.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أنا أنتمي إلى بيت يقدس الكتب. عائلتي مثقفة جدًا بالنسبة لمتوسط الثقافة الجزائرية بالنسبة لعائلة من الطبقة المتوسطة، في أعقاب الاستقلال. طفولتي "الكتابية" ـ إن جاز التعبيرـ والتي كانت مع بدايات الثمانينات هدهدها تقديس الكتب. المكان الفاخر على أثاث الصالون الذي كان يحوي كثيرًا من الأغراض والذي كان "بوفيه" متنوع الأهداف؛ والذي أهم شيء يحتويه هو "التلفزيون"، كان يسمى "بيبليوتاك" حتى من قبل والدتي الأمية (التي ستتحدى الحتمية التاريخية كما يقول ماركس، فتمحو أميتها عند بلوغها الستين)... كانت للكتاب هيبة كبيرة جعلتني أتمثل دومًا ما بداخله تمثلًا سحريًا أو كالسحري... كان كبار العائلة المحيطون بي: والدي، عماي وشقيقي الكبير وابن عمي الذي يكبرني أيضًا، غالبًا ما يتحدثون عن الكتب، وكانت أسماء الكتاب مألوفة بالنسبة إلي، وهو ما دفعني إلى تعلم اللغة الفرنسية في الحادية عشرة (وهي سن مبكرة جدًا بالقياس إلى جيلي المعرّب الذي كان أول جيل يتعرّبُ تعليمه في جزائر كان عمر استقلالها أقل من عشرين سنة يوم أن دخلت أنا المدرسة)... كانت الكتب غرفة إضافية في بيتنا حلمت دومًا بدخولها، ولم أكن أعلم أنه عبور بتذكرة دون عودة، وحسنًا فعلت، فقد منحت نفسي إمكانية تحقيق الحلم الإنساني القديم للسفر في الزمن، فقد عشت في أكثر من مكان، وتلبست بأكثر من جسد وحللت في أكثر من روح، ولا زلت أفعل ذلك بالمتعة الأولى نفسها التي كانت لي وأنا اقرأ قصص جول فيرن التي كانت أول ما خطف لبي في مكتبتنا العريقة "البيليوتاك"، التي كانت صغيرة فيما كانت أحلامها كبيرة ككل شيء حامل للجدوى وللجذوة في هذه الحياة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

بدون تفكير كبير سوف أذكر "راقصة المعبد" لتوفيق الحكيم، وهو أول ما قرأت له في الرابعة عشرة فكهربني لأنني لم أكن أعرف أن الكتابة قد تكون بهذا الشكل اللذيذ الذي يشبه اللذة الجنسية التي كنت بصدد بداية التجوّل في أقاليمها... أذكر أنني أعدته ثلاث مرات متتاليات قبل أن تصيبني خيبة برودة اللذة. على حواف الثامنة عشرة زعزع كأني كتاب ألدوس هكسلي "عالم جديد شجاع". راقني أن يكون الأدب شبيها بما في دماغي. كنت أكره الميل الشديد للكتب الأدبية صوب الحكي والتمتع بالحبكات... وكنت أشتاق للتفكير المركب. أن تكون الحكايات مناسبات للتفكير، أن يحمل الأدب أبعادًا كثيرة في جمله وفقراته وأبياته الشعرية. ووجدت كل ذلك بأبهى وأمتع الأشكال الممكنة لدى هكسلي. "الرجل في القلعة العالية" لفيليب ديك شكّل لي أفقًا كثيرًا ما سرت تحت هديه. الإمكانيات الكثيرة لتصريف الفعل "تخيّل"... ثم الباب المفتوح منذ هكسلي على الخيال العلمي الذي بدا لي بعد اكتشاف فيليب ديك أنه باب بحجم العالم. "اللامنتمي" لكولن ويلسن كان تجربة مثيرة للاهتمام. قرأته منذ ربع قرن وراقني لأن أبناء جيلي ساعتها كلهم كانوا مبرمجين على الاعجاب بكولن ويلسن (أتكلم عن بدايات التسعينات، وكنت ساعتها في العشرين من عمري الذي مر سريعًا كتقليب صفحات كتاب خفيف الظل). أعدت قراءته بعد عشر سنوات فبدا لي محدود الأهمية، وأعدت قراءته بعد عشر سنوات أخرى فوجدته كتابًا ينطوي على كثير من الأفكار المتميزة... والواضح من كل ذلك أننا نحن الذين نتغير لا الكتب. لهذا فكثيرًا ما أعيد قراءة كتب قرأتها قديمًا، أو كتبًا أعتقد أنني عالم بما فيها، وما اقرأه ساعتها هو نفسي لا الكتاب.

تشارلز بوكوفسكي في كثير من أعماله، كورت فونيغوت "إفطار البطل"، وويليام بوروز "الوليمة العارية" و"الآلة الرخوة".. علموني أننا نستطيع أن نكتب كما نفكر، وحرروني من عقدة الشكل الكتابي وجنس الكتابة التي تحتل في ثقافتنا الشرقية أهمية مبالغا فيها... (وأستطيع تأليف كتاب كامل حول هذه الفكرة الأخيرة). وعلموني التفريق بين "الجدية" و"الأهمية" و"الترهل"... ثم درسهم الكبير: الكتابة مغامرة في المجهول وليست تطبيقًا لدروس نتعلمها على مقاعد الكتب التي في مكتبتنا، أو التي على القوائم المليئة بالنزق والاعتباط  للجوائز وللوائح أفضل المبيعات. "جورج بيريك" عالم مليء بالتجريب. أحببت التجريب في الكتابة بشكل مجنون. القائمة مفتوحة طبعًا. وهل يمكن لقائمة كتبنا المفضلة أن تغلق؟ (صوت مشاغب ما يقول داخلي: لماذا تحدثت عن هذه الكتب؟ هنالك ما هو أعمق وأعرق في حياتك... أوكي... دعنا من هذا الكلام حاليًا).

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لقد وردت فيما سبق إجابات جزئية لهذا السؤال، ولكنني مع ذلك أستطيع رصد ثلاث مراحل للإجابة بدقة أكبر: مرحلة التكوين الأولى والتي تنتهي بدخولي الجامعة والتي سيكون بطلها المطلق هو توفيق الحكيم... فقد كان يمثل كل ما تمنيت أن أكونه: مثقف، باريسي الهوى، عربي عالمي، متخفف من عقدة المشرقي المتخلف، متحرر من كل قيد ممكن، متعدد المواهب ينتقل بين الأجناس الكتابية بيسر وبراعة غريبين، غارق في التاريخ بشكل يستجيب لطبيعتي الفضولية...

 في مرحلة لاحقة سوف أكتشف ألدوس هكسلي الذي لازمته مطولا فأخذت عنه الولع بالخيال العلمي والفلسفة والتفكير العميق في العالم، وكذا ميلي إلى جعل الكتابة متعة مثقفة، لسنوات طويلة أعتقدها لم تنقض بعد حسبت روايته "عالم جديد شجاع" أجمل كتاب يمكن تأليفه... وقد أعدت ترجمته بشكل يتماشى مع مزاجي (صدر عدة مرات آخرها برعاية العزيز طالب عمران عن جامعة دمشق في عز الأزمة السورية 2016)... أما منذ سنوات فأرى المزاج الأقرب إلى مزاجي هو مزاج الفيلسوف الحكيم الإنساني الفرنسي إدغار موران... دون أن أتمكن من تحديد كاتب مفضل، لأننا مع تراكم السنوات داخل "البيليوتاك" نصبح أكثر إصغاء إلى "الكتابة" منا إلى الكتاب. الكتابة تصبح عالمًا مركبًا يملك منظومته البيئية، وهذا الأمر الذي يبدو شعريًا أو ميتافوريًا يغدو على أيامنا المتأزمة هذه مكتسبا لبعد آخر، فنحن نعيش منعرجًا تاريخيًا يشهد فيه الكتاب والكاتب انتكاسة كبيرة بسبب تراجع دور الاثنين لفائدة خطابات قد تولد في رحم الكتب، ولكنها تأخذ مسارات معادية للكتاب أو مهمشة له: الميديا والميلتيميديا والعوالم الافتراضية وعوالم السنما وصناعة الفرجة التي تسير بالمعنى في طريق مناف تماما للمسارات المعهودة مع الكتب: الإلهاء، صناعة الطواعية ثم البلاهة، قتل الروح النقدية في العقول بحثًا عن سلاسة سياسية معينة، تسطيح المعاني بدلًا من تأجيجها، وكشف جوانبها المركبة التي يبدع الكتاب في كشفها وسبر أغوارها.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

قديمًا كنت أفعل. ولكنني شيئا فشيئا صرت لا أجد لا الوقت لذلك، ولا الجدوى منه. الحاصل هو أنني كثيرًا ما أعيش تجربة قراءة كتاب كقصة حب. أغرق وأستغرق كثيرًا، وأصبح كالعاشق لا هم يشغله أكثر من الحديث عن حبيبته. الكتب التي تثيرني أحولها إلى موضوعات للتأمل ولتبادل الحديث مع أصدقائي المقربين أو مع زوجتي ـ في كثير من الأحيان ـ لكونها القارئ الأكثر قربًا من مكتبتي ومن دماغي... لتصبح تلك المحادثات التي يظل صداها يتردد في دماغي نوعا من الملاحظات والريفيوهات الحية.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

ربما يكون أفق الكتاب قد اتسع. من المثير للغرابة أنني كتبت بين 1999 و2000 روايتي المعروفة "أمين العلواني" وفيها تصوير لعالم الكتاب والكتب بعد حوالي قرن من الزمن، وقد تصورت قبل مجيء الكتب الالكترونية وانتشارها المشهد المستقبلي، واقترحت أن القراءة ستكون على الشاشات والجدران والمساحات الطيفية، ولكنني جعلت الكتاب يمتلك مكانة أهم مما كانت عليه في الماضي، وهو بالضبط ما نراه اليوم في 2022 وليس في عام 2097 كما ورد في روايتي منذ 23 سنة. أفق الكتاب قد اتسع أكثر بمجيء الكتاب الإلكتروني، شخصيًا لي علاقة تماهٍ شديد مع الكتب بشكليها، ولكل شكل من أشكال الكتاب مكانته لدي. أجد حبورًا كبيرًا وأنا أتعامل مع الكتب والسندات الإلكترونية؛ لما تحققه لي من سرعة في الوصول إلى الكتب، وفعالية في الاطلاع في حينه، بقدرما أجد بهجة في تقليب صفحات الكتب. والحاصل لدي أن الكتب الإلكترونية قد خلقت علاقة لا قبل للكتاب بها مع جمهور، لا قبل للقراءة به. وهذه فائدة لا ريب فيها. أما الفوضى العارمة في تسيير شأن الكتب إلكترونيًا بعيدًا عن الرقابة وبمعزل عن احترام حقوق كل ذي حق؛ فالأمر في تصوري ظرفي سيزول تمامًا، والغالب أنه بسبب التخلف الكبير الذي تسجله بلدان عربية كثيرة في المنظومة البنكية والمنظومة الحقوقية والأمن الإلكتروني وما شابه ذلك. وكل هذا يؤول إلى تنظيم ما بعد حين.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

مكتبتي تشبه دماغي: فيها فوضى عارمة، تشتت كامل، وتفرق لدمها بين قبائل المساكن. لقد كتبت فصلًا يصف ذلك الأمر جيدًا في كتابي الأخير (منمنمات سيرذاتية تحمل عنوان: "سجلات الخافية") عنونته: "الكتب الصعاليك"... وفيه وصف جيد للكتب ولمفعول الزمن عليها في مكتبتي. وكثير ما أتذكر حالة الأميركي ري برادبوري الذي حول مكتبته التي هي مكتبه إلى ما يشبه مغارة علي بابا مالئًا إياها بالأغراض الغريبة والقطع العجيبة، وكان يصف المكان بغرابته المقصودة بأنه مصدر إلهامه الأساسي في كتابة نصوصه العجائبية والخيالية العلمية. وغير بعيد عن ذلك تصور خورخي لويس بورخيس للحياة الصاخبة التي يتستر عليها الصمت المطبق الذي يخيم على المكتبة الوطنية لبوينس آيريس التي كان يديرها. وقد كنت أشعر بكثير من الحرج بسبب الفوضى التي تعم مكتبتي والتي توحي لأول وهلة بشخص غير نظيف ولا حريص، مثقف لا تستطيع تقديمه لأبنائك لأنه سيكون أنموذجًا خائبًا جدًا إذا ما حكمت عليه من خلال منظر مكتبته، ولكنني ارتحت كثيرًا منذ سنوات حينما زرت بيت "جول فيرن" في مدينة آميان بفرنسا، ورأيت نزعة مراكمة "القمامة النبيلة" التي هي أوراق قديمة تأكلها الأرضة، وأدوات قادمة من كل مكان أسافر إليه (وكثيرًا ما فعلت) بعضها مكسور وبعضها في طريق التحلل والتفتت، ثم تحد الكتب تسبح مثل أفلاك مغلوبة على أمرها وسط منظومة شمسية ربها غير معتن بما خلقه... أعتقد أن هذا حديث مناسب لمكتبتي التي تشبهني؛ إذ إن فيها كل شيء، ولا شيء فيها يملك مكانًا واضحًا، الجوار بين المتناقضات، والتراتب الاعتباطي الذي يشكل ثقافتي هو القانون الوحيد، وكثيرًا ما تتفرق الكتب أوتسقط أرضًا بدلا من أماكنها على الرفوق بفعل صغيريّ: أندلس ومحمد ماسينيسا، فإذا عادت الكتب إلى الرفوف وجدت كتابًا لأبي حامد الغزالي يكاتف رحلة مدام دي ستايل إلى إيطاليا، ويسندهما شرح إنجليزي للماهابهارتا وتفسير للقرآن مع روايتين فرنسيتين وكتاب لإدورد سعيد وآخر حول تاريخ بابل أو تاريخ العقائد في الصين القديمة، أو ربما مقتطفات شعرية جاهلية أو حتى كتاب حول النظرية السياسية لتيدا سكوتشپول... هي أيضا مكان يشبه قناعاتي السياسية: ليس لديها أبواب ولا أحد ممنوع من دخولها: أغورًا قديمة أو فضاء ديمقراطي يسع الجميع، ويقف بكتبه المتفاوتة على مسافة غير متفاوتة من الجميع.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أنا منذ خمس وثلاثين سنة وفي لعادتي: أقرأ دائمًا أكثر من كتاب في الوقت نفسه؛ عادة لا أغيرها إلا نادرا إن باغتتني مواعيد عمل ما. وحاليًا أعكف على كتابين: رواية "la plus secrète mémoire des hommes" للكاتب الفائز مؤخرًا بالغونكور في فرنسا: محمد مبوغار صار، وأقرأ كذلك كتاب "Political Order in Changing Societies" لصمويئل هنتنغتون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة وائل فاروق

مكتبة ربيع عيد