29-أكتوبر-2018

المترجم معاوية عبد المجيد

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


معاوية عبد المجيد مترجم وكاتب من سوريا، من مواليد دمشق 1985. نال "جائزة جيراردو دا كريمونا لترويج الترجمة في حوض المتوسط" عام 2018. ترجم العديد من الأعمال الأدبية، منها رباعية "صديقتي المذهلة" و"بيريرا يدعي" لأنطونيو تابوكي، و"لا تقولي إنك خائفة" لجوزِبِّه كاتوتسيلا، وثلاثة روايات من "رباعية الكتب المنسية" لكارلوس زافون.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

جئت "من" عالم الكتب. ولدتُ في بيتٍ يحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف كتاب، بالحدّ الأدنى، فضلًا عن صناديق الكتب التي أرسِلت هنا وهناك. وذلك كلّه بفضل والدي، فؤاد بلاط عبد المجيد، كان مهتمًّا ولا يزال بالثقافة نظرًا إلى عمله في مجال الصحافة والإعلام. أفراد الأسرة جميعهم يقرؤون، وقد نشأت في ظلهم وأحببت تلك الكائنات "الكتب" التي تشغل كلّ زاوية في البيت. وجود الكتب في المنزل يشعرك بالطمأنينة: المعلومة في متناول اليد، والفكرة في حاضنة المنام. حتّى إنّ فتاة أحلامي، في سنّ المراهقة، كنت أتخيّلها قارئة في حاجة إلى كتاب لن تجده إلّا عندنا في البيت. كنّا ننظف المكتبة مرّة في السنة، وكنت أنفض عنها الغبار، غبارًا لا يزول بل يتسلّل إلى الرئتين، ما جعلني أصاب بكلّ أشكال الحساسيّة الأنفيّة. وكان والدي، في فصل الصيف، لا يسمح لي بالنزول إلى الحارة للعب قبل أن أحفظ خمسة أبيات من المعلّقات، أو مقتطفات من قصائد المتنبّي، أو سورة قصيرة من القرآن الكريم، في اليوم الواحد. ما الذي جاء بي إلى عالم الكتب؟ رغبتي في النزول إلى الحارة للعب. صحيح. ولكن أيضًا هناك رغبة في "خلق" مثل تلك الكائنات، رغبة في تحويل الطمأنينة إلى طاقة مستدامة.

  • ما الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

ملحمة "الحرافيش" للأديب المصريّ نجيب محفوظ. قرأتها في سنٍّ مبكّرة، وما تزال إلى الآن تطنّ في رأسي بين الحين والآخر، وذلك رغم كثرة الكتب المؤثرة التي قرأتها بعدها. فما معنى "الأكثر تأثيرًا" إن لم يكن "الأكثر استقرارًا" في النفس؟ هناك قصّة من الحرافيش ما تزال عالقة في ذهني. باختصار: "رجلٌ متّهم بارتكاب جريمة، يُحكَم عليه بالسجن المؤبد فيهرب، يقضي خمسة وعشرين عامًا إلّا يومًا واحدًا خارج البلد، ستنقضي العقوبة ويحصل على البراءة بعد 24 ساعة، ينفد صبره ولا يحتمل البعاد عن زوجته، يعود إلى منزله في تلك الليلة، ليكتشف أنّ زوجته تزوّجت بالضابط الذي تولّى مَهمّة البحث عنه، فيلقي القبض عليه ويزجّ به في السجن المؤبّد". هذا ما أذكره عن تلك القصّة، طيف قصّة بالأحرى. لكنّني أذكر الشعور الذي راودني حينذاك. شعرتُ بفرحة، لأنّني رغم صغر سنّي فهمتُ الحيلة السرديّة التي صاغها الكاتب، وأدركتُ سخرية القدر وانقلاب المصائر في الحياة وكيفيّة تصوير ذلك الانقلاب بوساطة الأدب. تشكَّل وعيي بفضل حدوتة متقنة صرت أبحث عنها في كلّ نكتة دارجة، وأستكشف مثلها في كلّ خرافة شعبيّة، وأفتّش عمّا يشابهها في كلّ رواية، وأتّخذها معيارًا لقياس حجم الذكاء عند كلّ أديب.

  • من كاتبك المفضّل، ولماذا أصبح كذلك؟

ربطًا بالإجابة السابقة، أقول إنّ نجيب محفوظ من بين المفضّلين. لأنّه استطاع أن يعلِّمني بأنّ الحظّ لا يحالف إلّا رجال السلطة المتسلّطين، وأن أتجنّب هذا النوع من الحظوظ التي لا تٌحمَد عقباها. ولكن هناك إيتالو سفيفو أيضًا كاتبٌ مفضّل لديّ. ترجمت له "ضمير السيّد زينو"، صدرت عن دار أثر عام 2013. سفيفو ساخر ولمّاح كبير. كان مقلًّا، وما كتب تلك الرواية إلّا ليثبت أنّه قارئ عظيم. أراد بها أن يحرج المتفائلين بمدرسة التحليل النفسيّ، وقد قالها صراحة: "هل نحن متأكدون من أنّنا ننوي أن نحرم الإنسان من أجمل ما لديه؟"، يقصد "العقد النفسيّة" بطبيعة الحال. فرويد من جانبه لم يسمع باسم سفيفو، وقد تعرّض الأخير لانتقادات واسعة من شتّى الأطراف والتيّارات الفكريّة على روايته تلك. فبعث على إثرها برسالة إلى أحد الصحفيين الذين هاجموه قائلًا بما معناه: "يا صديقي! أنا واثق من أنّ الكتابة ضروريّة، لكنّ النشر هو الذي لا لزوم له". سفيفو كان يعمل بالتجارة وإدارة المصانع، علاقته بالأدب مختلفة عن الأدباء الآخرين، يرى في الكتابة والقراءة لحظة واسعة للتأمل، صادقة إلى أبعد الحدود، وهو فيها بريء يبحث لنفسه عن تهمة. فكرة الأدب عنده معاكسة لـ"الاعتراف".

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

لا. حاولتُ كثيرًا لكنّني فشلتُ. أعتبر الملاحظات والملخصات لما نقرأه ضرورية جدًّا، ومفيدة جدًّا. لكنّني أخفقتُ فيها. إذ إنّني أحيد عن فكرة الكتاب وموضوعه. وأجد نفسي أكتب عن شيء آخر. بإمكاني تلقين الدروس في أهميّة هذه الملاحظات وكيفيّة كتابتها؛ لكنّني شخصيًّا أعتمد على ذاكرتي القويّة، بل أمرّن ذاكرتي باستحضار كتبٍ قرأتها في السابق. أمّا بخصوص الكتب التي أترجمها، طبعًا، أضع ملاحظات وأبحث عن الكاتب وأشرِّح هيكل الكتاب وأفكك أفكاره ثمّ أربط بينها.

  • هل تغيّرت علاقتك بالكتب بعد دخول الكتاب الالكترونيّ؟

الكتاب الإلكتروني كان حلًا ممتازًا لعملي في الترجمة. يحتوي على مزايا كثيرة، ما كان الكتاب الورقيّ ليؤمّنها. لكنّ الكتب المقرصنة، أو المُستَبدَفة (من PDF)، فهذه كارثة بكلّ المقاييس. لا يمكن استخدامها إلا كصورة عن الكتاب الورقيّ. كما أنّ التزوير والتحريف يزدهر فيها. ما الذي يضمن لك أنّ القرصان لم يستخدم الفوتوشوب في محو أو إضافة جملة معيّنة ليست موجودة في الكتاب "الحقيقيّ"؟ ناهيك عن حقوق النشر وإيذاء العاملين في سوق الكتب. أمّا الكتاب الإلكترونيّ، فهو منشور بترخيص من الدار والمؤلّف، ومحميّ بنظامٍ يمنعك من التلاعب بمحتواه، لذا من الممكن الاعتماد عليه كمصدر في الدراسة والبحث.

  • حدّثنا عن مكتبك؟

ربطًا بالإجابة السابقة، يبقى الكتاب الورقيّ بالنسبة إليّ هو "الكتاب". وتبقى المكتبة المنزليّة هي تلك المكوّنة من الكتب الورقيّة. وأنا أرى أنّ المكتبة المنزليّة هي بمثابة البنية الفوقيّة للفرد. وبناء على هذا الأساس، كنت أسعى دائمًا لإنشاء بنية فوقيّة خاصّة بي، خارجة عن تلك التي نشأت في ظلها صغيرًا. لكنّ التنقّل بين إيطاليا وسوريا ثمّ إيطاليا وفرنسا، حال دون تراكم الكتب لديّ. تعرّضت لظروف قاهرة، تعرّض لها أغلب السوريّين، ولم أستقرّ في بيتٍ لي إلّا قبل حوالي العام من تاريخ اليوم. نسيتُ خلال تلك الفترة لماذا نشتري الكتب وكيف نقرؤها – بغضّ النظر عن عملي كمترجم – واستطعتُ أن أؤمّن الكتب الضروريّة على المستوى الشخصيّ. ولعلّ هذه أوّل خطوة في بناء مكتبة منزليّة. ولكن أحيانًا أنظر إلى هذه المكتبة الصغيرة، فأستغرب وجود كتاب مثل "أعظم النصوص في الفيزياء، من إيمبيدوكليس إلى أينشتاين"، ولا أفهم كيف وصل إلى رفوفي، أو ما الذي دفعني للإتيان به. يبدو أنّ أيَّ كتاب ضروريٌّ على المستوى الشخصيّ. أحبّ اقتناء الكتب التي تحتوي على لوحات الرسّامين الكبار ونبذة عن حياتهم وفكرة عن أعظم لوحاتهم. ومن جهة أخرى، أحبّ أن أهدي الكتب، وأن أراقب ردّة فعل المهدى إليه، فالانطباع الذي يتشكّل على وجهه يكشف جوهره النبيل. أنا على يقين من أنّ المكتبة الشخصيّة لا تتكوّن من الكتب التي نقتنيها لأنفسنا فقط، بل من تلك التي نهديها للآخرين أيضًا.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

العمل في الترجمة يحكم عليك قراءة أعمال كثيرة بدافع ترجمتها. وإنّ أكثرها لا تتمّ ترجمته. مضيعة للوقت والمتعة في آن واحد. وعندما تعطي لنفسك إجازة من الترجمة فإنّ آخر ما يخطر في بالك هو أن تقضي الإجازة في قراءة الكتب. ولكن، في الفترة القادمة سأعطي لنفسي مجالًا للقراءة من أجل المتعة. أودّ أن أقرأ من الأدب العربيّ المعاصر، فمنذ أن بدأت بدراسة الأدب الإيطاليّ وباشرتُ الترجمة، لم أقرأ إلا القليل النادر ممّا يكتبه العرب في هذه الأيّام. لديّ ضمن الخطّة روايتان: "عين الشرق" للكاتب السوريّ إبراهيم الجبين، صادرة عن "المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر" عام 2016، 360 ص؛ و"خرائط التيه" للكاتبة الكويتيّة بثينة العيسى، صادرة عن "الدار العربية للعلوم (ناشرون)" عام 2015، 400 ص.

أتمنّى لنفسي قراءة ورقيّة ممتعة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة تمام هنيدي

مكتبة بدر عثمان​