19-أبريل-2021

الباحث محمد عثمانلي

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


محمد عثمانلي كاتب وباحث من تركيا، طالب دكتوراه في التاريخ العثماني الحديث، حاصل على شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية والإعلام، والبكالوريوس في الهندسة المدنية. مهتمّ في مجال فلسفة التاريخ.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أرسلوني للعب الكرة مع بقية الأطفال ولكن عندما لم يروا انسجامي معهم أُرسلت بعدها مع الأطفال الذي يذهبون بهم إلى المكتبة العامة، فيها وجدت توائم الروح وتكلمت معهم، استهوتني القصص والموسوعات المصورة. بالطبع كنت أًحب ألعابًا أخرى وقتها كـ"الاستغماية"، بالأخص عندما تكون على مدى واسع ضمن حارات وأزقّة ولكن عالم المكتبة كان فيه صدرُ أمٍّ رحيبٍ.

جُذبت لقصص الألغاز والمغامرات والخيال المحلية والمترجمة (تان تان مثلًا). ثم في مقتبل الشباب انتقلتُ لكتيبات أجاثا كريستي وروايات الجريمة وحكايا البوليسية. بالنسبة للموسوعات؛ كنت أحبّ الموسوعات الطبية التي اطلعت فيها على تفاصيل الدماغ والقلب وتشريح الأعضاء.

في الثانوية درسني أستاذ جيولوجيا كنت معجبًا بحديثه، إلى الآن أتذكر كلمته "لا يكفي أن تبحث عن المعلومة بل كيف ابتدعها صاحبها"؛ وظّفت هذه العبارة بالخطأ وسببت فضولًا في اكتشاف كتاب أبي العباس البوني منبع أصول الحكمة، المخبأ في بيت صديقي سرًا، وقتها حصلت مشكلة لأنني اطلعت على هذا الكتاب بلا إذن والد صديقي.

اشتغلت في بداية البكالوريوس لمدة وجيزة في مكتبة تعرفت بسببها على عالم النشر، جمعت مكتبتي الصغيرة الأولى، وتعرفت أيضًا على العالم الأسود للكتاب، مافيا دور النشر، التزوير والطباعة الممنوعة بالأخص الروايات المترجمة. وقتها دخلت لأول مرة إلى معرض دوليّ للكتاب مع الذي شجعني على القراءة والفهم كذلك؛ صاحب المكتبة، كان أبًا حكيمًا.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

عطفًا على الجيولوجيا وتشبيه بعض المؤرخين علم التأريخ بها، أو على مقولة هيغل: "المؤرخ كالمُنجّم، ولكن تنجيم المؤرخ لا يُختَبر بعكس المنجّم"؛ كانت مناهج التاريخ الابتدائية المدرسية وخرافاتها أول ما استلبني وأثّر بي من عالم الكتب. اعتبرتُ التاريخ مكروهًا ومادة صعبة، علاماتي في التاريخ تُقاس بالحضيض.

تعرّضت لتيارات دراسة التاريخ الرسمي المؤدلجة في أكثر من دولة، إحداهنّ بلا تاريخ استقلال والأخرى وليدة (استقلّت عن) إمبراطورية وثالثة استقلالها مربوط بالانزياح عن هيمنة عسكرية، وكلٌّ يؤرّخ على ليلاه. وهكذا حفظت ثلاثة أناشيد وطنية متضادة. شعرت بالعقدة ولكن لم أدرِ أنها "التاريخ".

هذا التناقض في مفهوم الاستقلال -مثلًا- سبّب لي بغض التاريخ حينها، مع عدم فهمي لماهية الاستقلال أو غيره، ووعي سطحي بالتاريخ آنذاك، كان ثمة متضادات متصارعة في الذات، ونوعًا من الانفصام الهوياتي، لعلها بذرة المفارقة التي رمتني لمجال التخصص فيه فيما بعد، ربما؛ لأن الحديث عن ربط سببيّ بين دراستي التاريخ ووعييّ القديم السطحي فيه، هو ضرب من الجنون.

دعنا لا نُيتّم الكتاب بفصله عن كاتبه لأجيب عن هذا السؤال مع أخيه القادم.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

عايشت حالة من الفوضى -كما يرى القارئ الكريم- جَعَلَت كاتبي المفضل هو الذي يعيش بين عالمين، أو لنقل عوالم متعددة متناقضة، توأم الروح، يعني ليس هنالك اسم محدد بقدر ما هو طرز لكاتب له مواصفات ما، مثلًا ممكن ذكر متنوريّ القرن التاسع عشر هنا، الذين لا يزال تأثيرهم بيننا بكافة تشابكاته.

من نامق كمال وبطرس البستاني مرورًا بمدحت باشا حتى أحمد رضا، الأمير صباح الدين وسعيد النورسي، جهدهم نشاطهم روحهم علمهم وعملهم، والجاذب الأكثر إليهم منذ مقتبل قراءاتي لهم، وحتى اليوم، ليس توجّه معين منهم، ولكن حياتهم، عاشوا بين فترات منفصمة وُصفت بالنهضة والإصلاح والتنظيمات، العثمانيين الجدد أو الأتراك الجدد أو سمّهم ما شئت، فالمسمّيات لا وزن لها عندي.

النورسي مثلًا عاش فترة منتهى الدولة العثمانية بأطوارها، تأسيس الجمهورية التركية، الحربين العالميتين، التغير في المجتمع والسلطة التركيان، هكذا شخصيات كانت بالفعل تجعلني أشعر بنوع من الغرابة والتساؤل حول تكوّنها، أُذكّر هنا بمقولة أستاذ الجيولوجيا أعلاه، مع عبارة تشبهها للمؤرخ الألماني كارل لامبرخت "أن تعرف التاريخ حقيقة كيف تكوّن"، وليس "كيف كان" حينما رد على مؤرخي الفترة الوضعية.

في هذا السياق أذكر حبّي لأشعار محمد إقبال والتي أحفظ منها نحو 200 بيت بلغتها الأصلية، مع عدم إتقاني الأردية، هي أيضًا تعيش بين عوالم، نتاج تلاقح ثلاث لغات (وثقافات) أصيلة هي العربية والفارسية والسنسكريتية.

بالنسبة لكتّاب الجمهورية فيمكن على الخصوص ذكر أحمد حمدي طانبينار، نجيب فاضل قيساكورك وعزيز نِسين. لذلك فالجواب على الشق الثاني من سؤالك "لماذا؟" يكمن في أنّي قد أبحث عن حلّ في التناقض والانفصام المعيش ضمن فترة مفكّري التنظيمات، و"الانفصام" خاصية جيولوجية لبعض المعادن كما هو معلوم.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

لفتتني مقولة لأحد أصحابي بهذا الإطار الذي تعرفت عليه حديثًا، ولكن صحبته بدت قديمة لأخلاقه العالية، هو قارئ أكول، قال لي مجيبًا على هذا السؤال: "هذه دروشة"، يقصد أنّه لا وقت أبدًا لكتابة مثل هذه الملخصات أو ترتيب أفكار الكتاب أو ما شابهه.

يعني أن القراءة السريعة أو المتأنية للكتاب؛ ولكن التي تَجرُدُه من الجلدة للجلدة -في بعض الكتب ذات الأهمية- يتوجب أن تهرع للحصول على زبدة الكتاب حتى تبقى معلوماته طازجة بشكل متوازٍ متساوٍ.

ولكن حين كتابة بحث ما أو أطروحة أو مقال مثلًا بالعموم فكل منّا لديه بصماته على الكتب. أفضّلُ ترك بصمات رقمية على الكتب، تطورت خبرتي في استخدام هذا الأسلوب، أرتب أفكار الكتب المهمة في أرقام وحروف، وأشبكها مع أرقام الصفحات، وفي بعض الأحيان أضيف أرقام السطور، وأرفق رموزًا تدل على عدّ السطور من أسفل أو من أعلى، بحسب الأقرب للمعلومة، مع رموز أخرى تفيد في التصنيف ورسوم كروكيّة ووسوم هيروغليفية مخترعة.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

في كتابة المقالات المتنوعة الأهداف، وفي عصر السرعة، لا يمكن التساهل مع الكم الهائل من المكتبات الإلكترونية، وهنا لأتحدث بنَفَسِ صديقي الذي أجاب السؤال السابق، ليس لدينا وقت لرفض أو قبول الكتاب الذي يطرق الباب سواء أكان ورقيًا أم الكترونيًا، كل شيء مرحّب به.

النخب والمثقفين والعوام أصبحوا كالعصابات الحميدة كل منهم لديه مكتبات مصنّفة بحسب التخصص والاهتمام والهواية، وليس فقط المستندات القابلة للنقل السهل (PDF) بل أصبح في هذا العصر لدينا مواقع وبرمجيات وحسابات لمكتبات ضخمة أخرى تسهّل البحث في محتوياتها، أنا أعترف أنني أنتمي لهذه المجموعات، والقارئ الجادّ لا بد أن له قنوات تواصل مع هذه العصابات.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

صديق آخر لي يكبرني بعشر سنوات كانت عنده مكتبة مهولة متنوعة بالنسبة لقدراتي العقلية والمادية، بلغت 7 آلاف كتابًا هو أول من فهمت من خلاله معنى المكتبة الشخصية، لأنه في مرحلتي الثانوية لم يكن لدي مكتبة بتلك الضخامة. قد لا ألقي أهمية ما للعدد هنا، المهم هو "كم تستفيد؟" من مكتبتك ومن مكتبات الآخرين ومما يتاح لك.

تحتوي مكتبتي كتبًا متنوعة اللغات بين العربية والتركية والإنجليزية، هي اللغات التي أستطيع القراءة بها إلى الآن. تخصصي في التاريخ يجذبني إلى تعلم الفرنسية كونها عقليًا أقرب للتخصص، بينما العاطفة تجرّني إلى الألمانية، لا أدري لماذا. ومع الزمن بدأت تقترب وتعلو نسبة الكتب المتخصصة من سائر مكونات المكتبة.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

لأتحدث أكثر عن الذي جعلني أقرأ في الكتاب الحالي أو انتقاءات الكتب الحالية بشكل أدقّ، اشتغالي في وثائق الأرشيف العثماني شكّل لي نوعًا من التحدّي البوليسي.

في استراحة أحد المؤتمرات قال لي صديق "أنت كالدودة"، لم أفهمه، ثم بعد شرحه فهمته، أستذكرها دومًا وأضحك، وقلت يبدو أن هنالك علاقة حتمية بين الدود والأرشيف، الدود يأكل أوراق الأرشيف وأوراق الأرشيف تتغذّى على عيوننا. لذلك أحب التعرف على مكنونات الوثيقة وكاتبها وكنه تفاصيلها وخباياها، التحقيق بجريمة الخط المعوجّ وإلقاء القبض على قاتل الوثيقة وافتتاح محضر استنطاق للشواهد فيها وإحالة المتهمين للمحكمة؛ ممكن استحضار مطالعتي الجديدة في نوعين من القراءات في هذا السياق.

الأولى حول مفهوم تاريخ الذهنيات/العقليات الذي ساهم في ابتكاره أستاذ فرناند بروديل، القطب الفرنسي لوسيان فيفر؛ والذي يُعدّ نوعًا من سيكولوجيا جماهيرية، أو لنقل بشكل أدق جماعية مخصوصة، تكشف الخطاب الجماعي في الوثيقة التاريخية. يضاف لذلك السيكولوجيا الفردية المتضمنة تحت مفهوم ذهني آخر اسمه "سيكوبيوغرافي" (السيرة النفسية) لمؤلف الوثيقة تحت البحث أو كاتبها، والذي لبروفيسور علم النفس الأمريكي وليام تود شولتز (William Todd Schultz) باع ابتدائي فيه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة مازن عرفة

مكتبة محمد علي شمس الدّين