06-أبريل-2020

الكاتب فؤاد عبد النور

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فؤاد عبد النور كاتب وباحث فلسطيني من أصل لبناني، من مواليد 1936، له كتاب "الجليل.. الأرض والإنسان" وهو موسوعة خرجت إلى الضوء نتيجة جهد بحثي ميداني امتد على سنوات، وثّق خلاله كل ما يتعلق بمنطقة الجليل الفلسطينية جغرافيًا وتاريخيًّا واجتماعيًا وسياسيًّا. كما كتب سيرته الذاتية ونشرها تحت عنوان "عشنا وشفنا وهرمنا". يقيم في برلين حاليًا ويشرف على "مركز حيفا الثقافي".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

علاقتي بالكتب قديمة جدًا، أستطيع القول إنها من 75 سنة تقريبًا. درست الابتدائية في مدرسة أيتام (لا أعرف أمي، فقد ماتت بالسل تقريبًا سنة بعد ولادتي) لمبشّر ألماني اسمه شنلر، نجح في بناء أكبر مؤسسة تعليمية في فلسطين حسب شهادة صحيفة هآرتس. المدرسة فيها مكتبة، وكان من ضمن المنهج القراءة الجيدة حسب الحركات من الكتاب المقدس. وتولعت بهذه القراءة وغيرها. كنت أشعر أني أسرح فيما أقرأ لبعض الوقت، وبقيت فيّ هذه العادة. كنا نسكن في نابلس، أبي كان يعمل في شركة إنجليزية تزود البوليس البريطاني وعائلاتهم بكل ما يحتاجونه. وهو رجل مثقف، يتقن الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والعربية بالطبع، وبعض العبرية بسبب نشأته في حيفا.علاقته بالبريطان جيدة بسبب عمله، وثقافته. عندما رحل الانتداب أعطوه الكثير من الكتب التي لم يرغبوا، أو لم يكن في وسعهم شحنها، فتضخمت مكتبتنا الخاصة، وكانت مهمتي الرئيسة خلال السنة الأولى من الحكم العسكري الأردني للضفة، وقبل أن يُعاد فتح المدارس، أن أجد للكتب مكانًا في بيتنا المتوسط الحجم وأرتبها، فتعرفت على عناوينها، وعلى الكثير مما فيها في وقتٍ مبكر، وفيها الكثير من المجلات مثل الريدرز دايجست التي كان أبي يواظب على شرائها شهريًّا، وعن طريقها تحسنت لغتي الإنجليزية كثيرًا متبعًا نصيحة أبي: "هذه مجلة جيدة. داوم على قراءتها. ستجد عشرين كلمة لا تفهمها في الصفحة الأولى. لا تفتح لها القاموس. أغلب الكلمات تفهمها من سياق الجملة. في الصفحة الثانية تقل الكلمات التي لا تعرفها. وهكذا". وكان بين هذه الكتب الكثير من كتبه الخاصة عن الديانات، والفلسفة الهندية - اليوغا، وكان يمارس تمارينها كل صباح، خاصة التنفس العميق. أخذت أمارس اليوغا مثله، وأستطيع أن إقول إن بذرة التعرف على الأديان ترعرعت فيّ من تأثيره.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

من الممكن أن تكون التوراة، بالعهدين القديم والجديد. وحتى عندما كنت أعتبر نفسي شيوعيًا سجينًا مع الشيوعين لأكثر من سبع سنوات، لم يخف تأثير التوراة علي، أو التعاليم المسيحية حسب ما جاءت على لسان المسيح وتلامذته. كان هذا التساؤل دومًا يلح علي وأنا بينهم: هل من الممكن أن أكون بتبني الفلسفة المادية على خطأ؟ وكنت أعرف أن المسيحية الحقة قد اختفت عندما تطورت، وتبنتها الإمبراطورية الرومانية بشخص قسطنطين. ما نراه اليوم أعتبره نتيجة الزواج بين الوثنية والمسيحية الناشئة، وهذا الزواج مسؤول عما ارتكبه هذا الدين من جرائم كبرى بحق غيره من الأديان.

وهناك بعض الكتاب الآخرين، مثل سومرست موم، جاك لندن، مكسيم جووركي، هوارد فاست، وكتّاب مجلة "صباح الخير" المصرية مثل عبد الرحمن الشرقاوي، أحمد بهاء الدين، وغيرهم كثير.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لا أستطيع أن أذكر كتابًا معينًا من الماضي البعيد. ولكن في السنوات الأخيرة، اثناء عملي على كتاب سيرتي، وعلى مسودة الطبعة الثالثة لكتابي "الجليل.. الأرض والإنسان"، اهتممت كثيرًا بكل ما يتعلق بالتاريخ الفلسطيني. كنت أتردد كثيرًا على مكتبة الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الـ"إف يو" في برلين، وعندها مجموعة جيدة من المراجع العربية. وجمعت كتبًا كثيرة من معرض بيروت للكتاب، وتكلفت بنقلها إلى برلين. من أهم ما وجدت في المعرض كتابين أثّرا على توجهي في الكتابة عن التاريخ الفلسطيني، واقنعاني بضرورة التشبث بالحقيقة فيما أكتب: الأول "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" (بلد عائلتي المحرومين منها) لرشيد الحاج إبراهيم، من نشر مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2006. حيث يعترف أحد زعماء الهيئة العربية العليا بأخطاء الحاج أمين الحسيني، وبكثرة من اغتيل من فلسطينيين لمعارضتهم الحاج أمين، أو خوفهم من إمكانية بروزهم على الساحة خارج زعامته المطلقة، والتي أدت مع الزمن إلى سقوط حيفا، وفلسطين لاحقًا. وهذا الكتاب لم يجرؤ كاتبه على نشره وهو لاجئٌ في عمان، وقدمته ابنته لوليد الخالدي للنشر بعد خمسين سنة بالتمام على كتابته! وقد تمنى رشيد الحاج إبراهيم: "لا أدري متى يجد العرب في أمتهم من باحثين ناقدين لهم من الجرأة والصراحة ما يمكنهممن دراسة المآسي التي تعرضت لها البلاد في الثورة المذكورة (1936 - 1939) وتصف نتائجها المحزنة التي جرت أمتنا للمعركة الفاصلة وهي مشلولة القوى، منتهدمة البنيان". في الحقيقة لم أكن بحاجة لمثل هذا التشجيع! أما الثاني فمذكرات أنيس الصايغ: "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"، من نشر دار الريس 2006. هذا كتاب قيّم فتح عيني على المخفي من سيرة منظمة التحرير بقيادة عرفات، وطريقة تصرفه مع المثقفين، والأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وأهمها عدم وجود القيادة الجماعية، وافتقاد الثقافة العملية في القيادة الفلسطينية. وأستطيع أن أقول إن هذين الكتابين شجعاني في الواقع على ما وصفه أحد الزملاء البحاثة في برلين بأن "فؤاد عبد النور قد أنزل الأصنام عن عروشها في كتاباته". وهذا فعلًا ما قصدته!

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

قليلًا ما أفعل. أُعلِّم بالقلم الرصاص على الهامش، أو أعلّم بقلم فوسفوري على ما يعجبني من فقرات. وعندما أحتاج بشكل مؤكد إلى حفظها أنسخها باليد وأثبتها على مفكرتي اليومية التي تحتوي على ما قمت به ذلك اليوم، مثل المواضيع التي أنزلتها على موقع "مركز حيفا الثقافي – فيس بوك" وغير ذلك.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

قليلًا جدًا ما أقوم بقراءة كتب إلكترونية. أظن كل ما قراته كان كتبًا ثلاثة: ديوان حسن البحيري، الشاعر الفلسطيني الفذ من حيفا. نُشر بخط اليد عن طريق الشاعر الفلسطيني كذلك هارون هاشم رشيد. وكتاب "فلسطين.. وطنٌ للبيع" للدكتور خليل نخلة. من رامة الجليل، أرسله لي إلكترونيًّا، ورباعيات "صلاح جاهين". لا أحب الكتاب الإلكتروني، وأصاب بالصداع عندما أضطر لقراءة مطولة على الجهاز، وقد وجدت أن لدي نفس المشكلة في الحسابات التجارية، لذا لم أنجح في التجارة كما يجب.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

عندي مكتبة جيدة أغلبها بالعربية. وجود المكتبات العامة بهذه الكثرة في الجامعات والبلديات يعفيك من الاضطرار لشراء كتب تضيق بها شقتك. الكتاب الذي لا تجده في مكتبات برلين يجلبونه لك من مكتبات أخرى في ألمانيا، برسمٍ بسيط، أو من أقاصي الأرض. هكذا تقدمت أوروبا والغرب بشكلٍ عام.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

الكتاب الذي أقرأه حاليًا، وترجمت ونشرت أغلبه في موقع "مركز حيفا الثقافي" يتعلق بتجربة شاب بلجيكي نما في الكونجو البلجيكية لسن المراهقة تقريبًا، تعرض لتجارب خارقة للطبيعة، أهمها عملية قتل رجل بالسحر الأسود، وعن بعد. مات والده ورجعت العائلة لبلجيكا، ودخل هذا الصبي للمدارس المحلية، وكان يُحدِّث زملاؤه عما شاهده وجربه في أفريقيا فكانوا يهزأون به، ويتهمونه بالغفلة. فقرر أن يتخصص في دراسته الجامعية بموضوع الإخراج السينمائي وقضى الأربعين سنة من حياته متنقلًا بين من يدعوهم بـ"شعوب التقاليد" أو سكان العالم الرابع، ليتأكد ويوثق إن كان ما رآه في الكونغو يتكرر في أماكن أخرى؟ من ضمن الشعوب التي أمضى وقتًا بينها الطوارق عند حدود الصحراء الكبرى الأفريقية، وهاييتي، حيث دخل جامعة متخصصة بدراسة دين الفودو، مدة خمس سنوات، وهي خليط من ديانات أفريقية وأساطير كاثوليكية، مما فرضها المحتلون الإسبان على الأهالي. زار الفيلبين، وأماكن أخرى. وجد أن ما شاهده بعينيه يتكرر فعلًا عند شعوبٍ أخرى فوثّقها، وكانت أفلامه تعرض في التلفزيون الرسمي للبلجيك، وحصل على دعمٍ من ملكها لجهوده هذه.

أجاب هذا الكتاب على الكثير الكثير من تساؤلاتي. تعززت قناعاتي بوجود قوى روحية صالحة أو شريرة تسكن حيزًا أعلى منا، ولا تخضع لإرادتنا. وفهمت لِم لم يفرض الله دينًا معينًا على البشر. يكفي أنه زرع في نفس الإنسان شيئًا من الممكن أن نسميه الضمير. لو زرع المعلومات في عقولنا زرعًا لكنا لا نختلف عن الحيوانات والمخلوقات الدنيا. هي لا تحتاج لمعرفة الله، ولا تتمتع بميزة الضمير. ولكن الناس عمومًا يخلقون أديانًا تناسب أهواءهم. المعرفة المتراكمة في هذا الموضوع تزرع في نفسك هدوءًا وسكينة، تتمتع فيها بالوجود والحياة نفسها، ولا تعيش في قلقٍ من قرب انتهاء وجودك. فهذا حتمي.

كتابات كثيرة تجمعت لدي تصب في هذا الموضوع. كتاب ألكساندرا ديفيد- نيل "رحلتي إلى لهاسا" 1932، تسرد كيف نجحت في اختراق المينة المحرمة في التيبيت، وتسرد الأمور الفائقة للمعهود التي رأتها من الكهنة البوذيين هناك. وهذا يذكرني بما كتبه برتراند راسل: "أُشبه مسألة معرفة سر الكون بدخول طفلٍ إلى مكتبة هائلة تحتل عمارة ناطحة سحاب. والكتب مكتوبة بلغة لا يفهمها الطفل، وغير الطفل".

وهذا كله يدفع المرء إلى التواضع، والاعتراف بجهله الإنسان للآن، رغم كل ما يقال أننا في عصر المعرفة والتنور.

 

اقرأ/ي أبضًا:

مكتبة أحمد علاء الدين

مكتبة خالد منصور