30-يوليو-2018

الروائية والمخرجة عبير اسبر

ألترا صوت - فريق التحرير

 

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


عبير اسبر روائية ومخرجة سينمائية من سوريا. صدرت لها ثلاث روايات هي: "لولو" و"منازل الغياب" و"قصص ورق". قامت بإخراج فيلمين سينمائيين الأول "عبق مغادر" والثاني "تك تك". نالت روايتها "لولو" المرتبة الأولى في "جائزة حنا مينه للرواية" في سوريا عام 2003.


  • ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟

لم يكن من السهل تقصّي السبب الذي جعل مني القارئة الشرهة التي أنا عليها، لكن عندما أعود بالذاكرة إلى طفولتي البعيدة، دائمًا ما أجدني مسّورة بمحيط آمن رسمت حدوده بنفسي، مرمية في عالم ورقي شيّدته بإتقان، عالم موازٍ أستطيع تلمس سطوحه، وإتقان تعرجاته، والسيطرة على مفاجآت سرده التي أحفظها بكلماتها، وبإشارات ترقيمها، وأرقام صفحاتها. في عالمي الورقي ذاك، كان كل شيء محسوبًا، وجراب ساحر العجائب سيتسع لخمسة أرانب بيضاء وثلاث ورد غضة، ومناديل قزحية بألوان الفرح، حيث إن فستان الجميلة سيتمزق بيد زوجة أب غادرة، قبل لحظات فقط من حضور عرّابة  الأمنيات وحلّها السحري،  بينما  القتلى في حكاية ثانية، سيموتون دومًا في ذات الميعاد، بعد هجران أو مرض أو حرب غادرة، ودموعي على أخوات افترقن سأسكبها بذات الغزارة، في الفصل الثالث، بعد قراءة المقطع الثاني، هناك على حافة الصفحة التاسعة والستين وبداية الصفحة السبعين لرواية ثخينة عن خمس نساء صغيرات. بينما تلك الرعشة المريبة، بعد قبلات العشاق المسروقة، في الأزقة المخاتلة، ستترك كمؤونة لتداعب مشاعر مراهقة متمردة كنتها.

عالم الكتب الذي رميت نفسي به حد التأذي كان مفهومًا، ومنطقيًا، ومنضبطًا، كما  ينبغي لعوالم طفلة بدأت عامها الخامس لتكون، لكن تفاصيل حياتي كانت شيئًا آخر،  حيث رُميت في عالم الكبار دون رأفة، وعيت الحقائق الأولى، الموت واللاجدوى،  العدمية والفقد، المشافي والألم والدماء دون أن أطلب تركة فظة كهذه، فلا يمكن لطفلة في الخامسة تحمل كل هذا الوعي، فخفت من الصباحات وفجاجة الضوء واحتميت بعتمة زوايا البيت الخالية مطمورة بالكتب، أثّبت بالحكايات فضاءً فضفاضًا على قامة طفلة فقدت أمها وما تبقى من روح أبيها وهي في الخامسة، فتعلمتْ القراءة بسرعة الضوء، فقط كي  تنجو وتستعيض عن اليتم الفاضح بملائكة وجنيّات قصّوا حكاياتهم، وتركوها على الورق.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟

كونت ذائقتي على مهل، فكما أخبرتك كان للكلمة المطبوعة قدسية غير مفهومة، كل ما أذكره الآن من قراءاتي الأولى هو خلطة من الجرائد اليومية ومجلة أسامة، تان تان، وميكي والمغامرون الخمسة، وياللعجب "روايات عبير" سيئة السمعة، التي كنت تجد في سطورها جملًا من قبيل "وقف ماسيموس اليوناني حاجبًا الضوء بجسده الهائل كالطود الشامخ، بينما شعره الداكن يسوّر وجهه ذا البشرة المقمرة بشموس حارقة".

لكني أنهيت تلك الخزعبلات الخنفشارية، وقراءاتي البلهاء تلك باكرًا جدًا، وأذكر أني في الصف الثاني الاعدادي، امتلكت مزاجًا رفيعًا في انتقاء الكتب لم أتراجع عنه حتى الآن، بدأ بكتاب عن الفن التشكيلي منزوع الغلاف لرسام مصري لا أذكر اسمه، جمدت بعد أن قرأت فيه لأول مرة سطرًا بالمحكية المصرية، فلم أكن أعلم أننا نستطيع فعل ذلك، حيث كان الراوي ينظر باستسلام والمطر يهطل خفيفًا إلى فردة حذاء طفل تنقر الزجاج الخلفي لسيارة تاكسي، وتضرب بأناة جملة خربشها السائق: "هي جت كده".

  • من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

أعتقد أني خسرت للأسف افتتاني بالكتّاب كما فعل بي ماركيز وكونديرا ورولفو وروث وديكينز وتوين مرة، أعتقد أن كتابة الرواية تفقدنا دهشة وسذاجة وبراءة وطهرانية أن يكون لدينا كاتب مفضل. الآن هناك كتب مدهشة، أكثر من وجود كتّاب مفضلين، فلم يعد "هكذا تكلم زرادشت" كتابي المتكامل الأول الذي أنهيته بالأول الثانوي إنجيلي المعرفي الذي دغمني بكمال جمله القصيرة حتى وعيت أن قصر تلك الجمل أخفى عيوبًا كانت ستفضحها ربما الاستفاضة الكلامية، نعم فقدت ولهي بنيتشه وبإميل سيوران وبوكوفسكي وهنري ميلر ومورافيا، بينما مع مرور الوقت ولغاية الآن سأزداد قربا من تشيخوف، ودسيتويفسكي، وكامو، وكويتزي.

لكن بشكل عام، علاقتي الآن مجتزأة وغير بريئة بالكتب، أحب من يسحبني من منطقتي الآمنة كقارئة ويحشرني في عالمه، قد أبهر عندها بأشياء محددة فأنا مأخوذة تمامًا بحبكة رواية "الطوق الأحمر" لجان كريستوف روفان، أو باسترخاء موراكامي، بغرائبية حسين البرغوثي في ضوئه الأزرق، واقتضاب وتقشف العالم الروائي لمحمد البساطي في رواية جوع، وبالمناسبة، أو بغير مناسبة، "ألف ليلة وليلة" ليس كتابي المفضل.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

عندي عادة لا يمكن السيطرة عليها، فأنا أحفظ جملًا كاملة من الروايات التي أحبها، وعند إعجابي بكتاب لا أستطيع التوقف عن الحديث عنه، أو استخدام جمل منه في رسائلي للأصدقاء، أو شراء عدة نسخ لا لشيء إلا لشعوري بالامتنان لوجود هكذا تحف، ويكمل التشفي عندما أبعث آراء مكتوبة لا تنتهي عن روايات أحببتها لمن يسألني سؤالًا بسيطًا من قبيل هل تحبين نهال تجدد؟

وعندما أصبح من السهل نشر المقالات، بدأت بالكتابة عما أعشق، إذ لطالما اعتقدت أن كتابة رأيي عن رواية أعجبتني هو واجب أخلاقي أولًا، وهذا ما دفعني للكتابة عن روايات علي بدر أو خليل صويلح، وقصص مازن معروف أو زياد خداش، وأكاد أشعر بالأسى كون لا دراية لي بالكتابة عن الشعر وإلا لما توقفت عن الحديث عن نصوص غسان زقطان الهائلة، وقصائد عماد أبو صالح المبهرة وخفوت أدائه الذي يقطع الأنفاس، أو محمد بنميلود الذي لا يتوقف عن مفاجأتي، أحيانًا أفتقد الكتابة عن الأدب، فقد  كنت محظوظة لفترة عندما كتبت مراجعات عن روايات باهرة لجريدة السفير قبل توقفها الذي سبب لي الكثير من الأسى.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

لا بالعكس، لقد تحسنت كثيرًا وأصبحت أكثر حميمية، فقد كنت ممن يكرهون حمل الكتب وقراءتها علانية، الآن أستطيع فتح ثلاثة ملفات عن مواضيع مختلفة، فلسفة، سير ذاتية، أدب، أو سينما.. دون الشعور بالذنب، والتنقل بينها في المترو، على محطة الباص، أو في أي انتظار آخر بمتعة لا تنتهي.

  • حدّثنينا عن مكتبتك؟ 

مكتبتنا هي انعكاس حقيقي لحياتنا الآن، وأنا ككل السوريين تركت ورائي في السنين الماضية كتبًا كثيرة في بيوت اعتباطية وفنادق وبيوت أصدقاء، وأنا هنا لا أتحدث عن الكتب برثاء، فقد كنت شرسة بالتخلص منها، وكانت مكتبتي الأم في الشام مقتضبة للغاية، لا ثرثرة فيها، لكن ما يؤلمني تلك الجمل والإهداءات التي تركها لي أصدقائي ومن أحببت، كأن عمرًا بأكمله مرّ فوق تلك الصفحات ويصعب تعقبه، فالكتب مرمية الآن في صناديق تأكلها العزلة والرطوبة في بيت لا أعرف حتى شكله. أما مكتبتي هنا في مونتريال فهي غير شخصية، مجرد كتب تستطيع تعويضها لمؤلفين لم يتركوا آراءهم عن الحياة وعني كما كان يفعل الأصدقاء.

عند وصولي كندا، سُمح بأن يكون وزن حقيبتنا ثلاثين كيلو غرامًا، ما أذكره أني استغنيت عن الكثير من الحقائب اليدوية والملابس لأحمل الكتب، ووصلت هذه البلاد البعيدة بحذاء وحيد.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

كما أخبرتك، أقرأ عدة كتب دفعة واحدة، والآن لفقر المصادر فإن معظم القراءات باللغة الإنجليزية، والكتب التي بين يدي حاليًا هي Dear Life لأليس مونرو، وكتاب شعري عن المطبخ لأنتوني بوردين Bone In The Throat، وكتاب قديم أهملت قراءته بشكل قصدي، وتسامحت معه بعد الملهاة السورية وهو مذكرات فيكتور اَي فرانك Man’s Search For Meaning، وما دمنا في مزاج الاعترافات؛ أعترف أنني أحب وأستمتع بقراءة المقالات المطولة، حيث لا أحب الاستعجال الصحفي حاليًا، وأجد المقالات المطبوخة على مهل فاتنة، ومن التجارب العربية اللافتة المقالات في مدونة مدينتي التي يشرف عليها وائل عبد الفتاح.

ملاحظة أخيرة غير مجدية: تحدثت هنا عن غرامي بالأدب والشعر والمطبخ والفلسفة والكتابة السيرية، وأخفيت عمدًا قراءاتي التي لا تنهي في السينما، فذلك حديث يطول.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة طارق الشرع

مكتبة شوقي برنوصي